شاعر واحد، هو معين بسيسو (1928-1984)، ربما يخطر على بالك الآن، وأنت تشاهد جغرافية الحريق والرماد في غزّة، فهو من مواليد حيّ الشجاعية في القطاع، وفي عام 1955 عمل مدير مدرسة مخيم جباليا، كتب شعراً مثل ملوحة بحر خان يونس، وكتب المسرح بقلم يرشح بالدم والدموع.
كان يقول: «عيونُ أطفالنا أزارُ قمصانكم/ أصابعُ أطفالنا ملاعقُ/اشربوا بها حبركم/وامضغوا الورق/أوشكت تدق ساعة حائط الغرق/وانظروا/إنَّ قطرة الدم الفلسطيني تكبر الآن/ تصيرُ سفينةً تملأ الأفق/اشربوا حبركم وامضغوا الورق/وعلّقوا على حبل الغسيل برقياتكم/وعلّقوا الخُطَبْ/ وقولوا أيّ شيء لنا/اكتبوا أيّ شيء لنا/ادهنوا أصواتكم بدهان الغضب/ضعوا على وجوهكم أقنعة اللهب».
كان معين بسيسو شاعر منطقة حرّة، إن جازت العبارة، شعره حادّ اللغة، قاطع مثل حدّ الكريستال. لغته بلا بلاغة جمالية تزيينية ولا معادلات غامضة، ذلك أن كل شيء أمامه وحوله واضح وضوح الشمس.
لمعين بسيسو وجه آخر هو الوجه المسرحي، كتب للمسرح العربي أو لنقل للمسرح الفلسطيني المبكر: «مأساة جيفارا»، «ثورة الزنج» «الصخرة»، «العصافير تبني أعشاشها بين الأصابع»، وغيرها من الأعمال.
في 2013 أصدرت الهيئة العربية للمسرح في الشارقة كتاباً بعنوان «معين بسيسو - البطولة المُحاصَرة» للباحث المغربي عبدالفتاح الشادلي قرأ فيه جانباً من تجربة بسيسو المسرحية الشعرية، وهنا، مرة ثانية، يعود القارئ إلى الشعر الذي يتنقّل بين الحوار كما تتنقل الحكمة بين الناس البسطاء، أوّل من يصنع اللغة البسيطة، لكن الحاسمة القاطعة كالحقيقة التي لا يغطيها الكذب .
خذ هذه الطبيعة الشعرية الغنائية بل الدافئة في مسرح معين بسيسو:
* ماذا نفعلُ.. كل الأرض اُحتلّت؟..
* نفعل يا أبتي ما تفعله الأرض، إذا ضُربت بالفأسِ.. تعطي عوداً أخضر».
* الشجرة لا تأكلُ حين تجوع الأغصان
* والطائر لا يمضغ حين يجوع جناحيه..
* عشرات القتلى والجرحى تحت الأحجار الذهبية
صار الجرح يسلمُ رايته للجرح..
يسقطُ لحمي، يتناثر فوق الأرض ريشاً يصنع منه الفقراء عصافير..
ذلك مقطع مسرحي كتب قبل أكثر من خمسين عاماً، بمخيلة شاعر كان يرى بعيني زرقاء اليمامة جغرافيا الحريق والرّماد.
[email protected]
0 تعليق