د. يوسف مكي
منذ مطالع القرن العشرين، حين خرجت الولايات المتحدة من عزلتها، خلف المحيط، إلى القارات القديمة، مرت السياسة الأمريكية بمراحل عديدة، من الذرائعية التي مارستها بحق كوريا والهند الصينية، والتي عبّر عنها الصراع المرير، أثناء اشتعال الحرب الباردة مع الاتحاد السوفييتي. وقد كان من نتائج تلك الحرب اشتعال حروب عسكرية في كوريا وفيتنام ولاوس وvكمبوديا، والإسناد السياسي والعسكري والمالي المباشر للاحتلال الإسرائيلي، منذ عهد الرئيس هاري ترومان، حتى يومنا هذا.
نهتم في هذا الحديث بالسياسة الأمريكية، تجاه المنطقة العربية، وتحديداً صراع العرب والفلسطينيين، مع الاحتلال الصهيوني لفلسطين التاريخية، منذ نكبة 1948، إلى نكسة الخامس من حزيران/ يونيو عام 1967، وما أحدثته من تغيرات استراتيجية في مفهوم الصراع، نقلته من صراع لتحرير فلسطين، إلى كفاح بلدان الطوق العربية، من أجل إزالة آثار العدوان، مجاله الرئيسي السياسة وليس العمل العسكري.
كان الفلسطينيون، وخلفهم الحكومات العربية، قد رفضوا قرار التقسيم رقم 181 الصادر عن الأمم المتحدة في 17 تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1947، الذي قضى بتقسيم فلسطين مناصفة بين اليهود والفلسطينيين، وجعل المدينة المقدسة، تحت الوصاية الدولية. وقد استند الموقف العربي، على عدم عدالة ذلك القرار، كونه لم يأخذ بالحسبان، أن نسبة تعداد السكان اليهود من حملة الوثيقة الفلسطينية، لم تتجاوز أثناء صدور قرار التقسيم، السبعة في المئة، وأن نسبة الفلسطينيين في حينه تتجاوز السبعة والتسعين في المئة.وقد صدر ذلك القرار بدعم مباشر، من الرئيس ترومان، الذي مارس مختلف الضغوط، على أعضاء الجمعية العامة للأمم المتحدة، بما في ذلك الوعود بالهبات والتهديد للدول من أجل التصويت لصالح القرار.
أعلن اليهود من جانب واحد قيام دولتهم، في 14 أيار/ مايو 1948، ودخلت جيوش الدول العربية المستقلة، الحرب ضد إسرائيل، وانتهت تلك الحرب بهزيمة ساحقة للعرب، تمكّن فيها جيش الاحتلال الإسرائيلي، من قضم 80 في المئة من أراضي فلسطين التاريخية.
في الخامس من يونيو/ حزيران 1967، شنت إسرائيل، بقيادة وزير دفاعها موشي ديان، مدعومة بشكل كامل من قبل الرئيس الأمريكي، ليندون جونسون، حرباً واسعة ضد مصر وسوريا والأردن، تمكّنت خلالها من احتلال قطاع غزة، وشبه جزيرة سيناء بأكملها من مصر، والضفة الغربية ومدينة القدس الشرقية من الأردن، ومرتفعات الجولان، بما فيها مدينة القنيطرة، من سوريا. وقد استمر ذلك الاحتلال، حتى معركة العبور التي شنها الجيش المصري، في 6 تشرين الأول/ أكتوبر عام 1973، وقد شاركت فيها الجبهة السورية إلى جانب مصر.
وكانت نتائجها انتقالاً رئيسياً في مفهوم الصراع، حيث بات همّ مصر وسوريا استرجاع الأراضي التي فقدتها في تلك الحرب. أما الأردن، فلم تعد له علاقة مباشرة بالحرب، بعد أن قرر القادة العرب في قمتهم السابعة التي عقدت بالرباط في 29 تشرين الثاني/ نوفمبر 1974، وحدانية تمثيل الشعب الفلسطيني، والكفاح من أجل قيام الدولة الفلسطينية المستقلة، على الأراضي التي تم احتلالها في حرب حزيران/ يونيو 1967، وبذلك باتت فلسطين التاريخية، من وجهة النظر العربية الرسمية في قائمة المصروفات.
ومنذ ذلك الحين، تحوّل الموقف العربي الرسمي والدولي إلى المناداة بقيام دولة فلسطينية، على جزء صغير من فلسطين، وتحديداً في الضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزة. وهنا بدأت مرحلة المكيافيلية بالسياسة الأمريكية، إثر تسلم جيمي كارتر سُدة الرئاسة عام 1977، حيث بدأ الحديث رسمياً عن ضرورة قيام دولة فلسطينية مستقلة على أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة، تشمل مدينة القدس الشرقية. وقد تكرر الحديث عن أهمية قيام تلك الدولة، في عهد الرئيس بل كلنتون وباراك أوباما وجو بايدن، وحتى الرئيس الجمهوري رونالد ريغان، تحدث عن حكم ذاتي للفلسطينيين، في تلك الأراضي. ومع كل هذه الدعوات المتكررة، لم تتحقق تلك الوعود، بل استمر الدعم الأمريكي، في كل أوجهه، بخط بياني متصاعد للاحتلال.
الكل يجمع أن الاحتلال الإسرائيلي، للأراضي الفلسطينية، ما كان له أن يستمر يوماً واحداً، من غير الموافقة والدعم الأمريكي، وأن كل الوعود الأمريكية بقيام الدولة الفلسطينية، كانت سراباً، وذراً للرماد في العيون، وتكريساً لنهج مكيافيلي، دأبت عليه الإدارات الأمريكية المتعاقبة، منذ عهد كارتر، إلى عهد الرئيس الحالي ترامب، الذي نقل تلك السياسة، من طابعها المكيافيلي البراغماتي، حيث الغاية تبرر الوسيلة إلى السياسة العدمية، حيث المساندة المطلقة للعدوان، ورفض الاعتراف بحق تقرير المصير للشعوب.
تبنى الرؤساء السابقون، نهجاً اتسم بالزيف والمراهنة على الزمن، أما الرئيس الحالي، ترامب، فقد حدد موقفه، في الفترتين الرئاسيتين، معلناً عداءه وبشكل صريح، لحق الفلسطينيين في الحرية وتقرير المصير، وانتهى به الأمر إلى المطالبة بتهجير الفلسطينيين من القطاع، بعد تأييده لضمّ مدينة القدس الشرقية لإسرائيل، في موقفين لم يجرؤ عليهما أي رئيس أمريكي من قبل.
وقد أدرك العالم بأسره، حجم المعاناة، التي مر بها الشعب الفلسطيني، وبشكل خاص التدمير المنهجي وحرب الإبادة في قطاع غزة. بات الفلسطينيون والعرب جميعاً، أمام خيار واحد، لا لبس فيه، هو المضيّ قدماً من أجل الدفاع عن حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، وإقامة دولته المستقلة فوق ترابه الوطني، واستخدام كل وسائل الضغط، من أجل إنجاز هذا الهدف النبيل، اتساقاً مع حقائق الجغرافيا والتاريخ.
[email protected]
0 تعليق