يحيى زكي
على مدار القرنين التاسع عشر والعشرين، وتحديداً منذ الحملة الفرنسية ومدافع نابليون، لم يتوقف الفكر العربي يوماً عن السؤال الخاص بالتقدم، بصيغه وأشكاله المختلفة، وكانت صيغة السؤال تناسب كل مرحلة، حيث طرح الرواد من أمثال رفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي وأحمد فارس الشدياق مسألة «المدنية»، كما كانت تسمى وقتها، مصحوبة بسؤال كيف نقتبس مدنية الأمم المتقدمة؟ في علومها وسلوكياتها وقوانينها، أما بعد مرحلة الاستعمار فجاء السؤال بلهجة بكائية: لماذا ضعفنا وتراجعنا حتى وقعنا في براثن الاحتلال؟ وحاول البعض استعادة روح الأمل وإثبات تفوق الذات الحضاري على الرغم من تراجعها الاجتماعي والسياسي فسأل البعض: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟
في مرحلة الاستقلال العربي، ومع الشعور بأن هناك إمكانية لتجاوز الفوات الحضاري مع العالم المتقدم، كان السؤال كيف نعيش العصر ولا نفرط في ثوابت هويتنا الخاصة، بما عرف بقضية الأصالة والمعاصرة، وفي أعقاب هزيمة 1967 كان السؤال مريراً وطُرح بصيغ أقرب إلى جلد النفس، وعلى مدار سنوات كانت هناك مئات البكائيات التي تنوعت بين أطروحات فكرية وأعمال أدبية وشعرية.
في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي شهد العالم العربي الكثير من المفكرين الذين كان لا شاغل لهم إلا البحث عن الأسباب التي تعيق التقدم العربي، وكُتبت إجابات بمختلف ألوان الطيف، بعضها دار حول التراث والبعض الآخر حول طبيعة المجتمع العربي وقواه الاجتماعية وتفاعلاته الاقتصادية، وتطرق بعضها إلى طبيعة العقل العربي نفسه، مثل محمد عابد الجابري، أو طبيعة الثقافة العربية التي تتسم بالثبات والعجز عن التغير والتحول، كما فعل أدونيس.
الملاحظ أن مشكلة هذا السؤال وصيغه المتعددة وإجاباته، بالتبعية، كانت تبحث عن السبب، تفتش عن العلّة، مستخدمة مختلف المناهج والأدوات والأفكار البحثية، ولكنها في الوقت نفسه لم تقدم بالقدر نفسه إجابات وافية عن سؤال كيف نتقدم؟ وفارق كبير بين العلّة والكيفية، الأولى إغراق في المقدمات وولع بالماضي والوقائع والأحداث المنتهية، أما الثانية فتعتمد على استشراف المقبل والتفكير بعقل مختلف ومغاير.
مع مطلع الألفية صمتت أسئلة الفكر، وانشغلنا على الساحة العربية في وقت من الأوقات بما سُمي بالربيع العربي، وفي وقت آخر فوجئنا بالثورة التكنولوجية وتبعاتها من تغول لمواقع التواصل وتقدم متواصل للذكاء الاصطناعي، ونسينا سؤال التقدم.
نحن نعيش الآن في مرحلة لا تولي أهمية للأطروحات الفكرية، ولا تلتفت كثيراً للتأمل والتنظير والبحث الطويل الجاد والدؤوب، ولكن تجارب الأمم الأخرى في التقدم تخبرنا أنه في مثل هذه الظروف تكون الكلمة الأولى لأفكار نخب التكنوقراط، التي تهتم أكثر بالفعل وتقود القاطرة إلى الأمام، وهنا ربما يحلو للمتابع أن يسأل عن تلك النخب في معظم أقطارنا العربية، هل هي موجودة بالفعل؟ وماذا عن رؤيتها وخططها الاستراتيجية؟ وماذا أعدت للانخراط في المستقبل؟ بل والأهم من ذلك ففي معظم هذه الأقطار لا يوجد من يتحدث عن المستقبل، فضلاً عن من يقدم رؤية متماسكة عن أحواله وعن موقع العرب فيه.
0 تعليق