د. خليل حسين*
ثمة تحديات كثيرة ينتظرها لبنان بخاصة بعد نهاية الحرب القائمة، منها مالية واقتصادية ومنها اجتماعية وسياسية، وصولاً إلى طبيعة النظام الذي يمكن أن يرسو الوضع عليه. لا سيما أن لبنان هذه المرة يمر بظروف عصيبة غير مسبوقة في تاريخ حروبه المعلنة والخفية منذ عام 1975 تاريخ انفجار الوضع الداخلي، الذي تقطعت به سبل السلام الداخلي البارد إلى يومنا هذا.
فلبنان الذي لم يعتبر يوماً دولة دخلت الصراع العربي الإسرائيلي، انخرط عنوة في صراعات إقليمية ودولية متعددة الأوجه والتداعيات، بحيث فتكت بمؤسساته كافة، وشرعت تركيباته الاجتماعية المذهبية والطائفية التي لم تلتئم أصلاً إلا على احتراب استمر عقوداً طويلة وتسببت بانهيار النظام والحكم ومختلف بناه الرئيسية، وظل مشرعاً على مشاريع كانت بعضها تصاغ رغماً عنه، ومن دون أي تأثير واضح من قواه ونسيجه غير المنسجم أصلاً.
واليوم إذا قدر للبنان الخروج من الحرب، سيكون بسمات أقرب إلى العصور الحجرية إن لم يكن قبلها. حيث الدمار المريع الذي لحق بمعظم مناطقه، وتكاد لا تفلت منطقة من الخراب، حيث البلدات والقرى قد دمرت بكاملها، وبعضها الآخر تغيرت معالمها، بحيث بات من الصعب أن يعرف المرء أين كانت أملاكه وأين كان مسكنه، باختصار واقع مهول، وربما غير مسبوق في تاريخ الحروب حتى في الحروب العالمية أو الشاملة.
إن إعادة إعمار المناطق المدمرة، تستلزم شروطاً غير متوفرة بالتأكيد، ثمة حاجة لإعادة بلدات ومدن بكاملها، بما فيها البنى التحتية وكافة مظاهر العمران البشري، وهي من حيث المبدأ، تستلزم إمكانات تعجز عنها دول غنية وذات اقتصادات موصوفة بعظمتها، علاوة على الشروط التي يجب أن تتوفر لبنانياً وحتى لجهة الدول التي يمكن أن تشارك بعمليات الإعمار، إضافة إلى الشروط التي ينبغي توفرها، لجهة الوقت الكافي لإعادة الإعمار وتغطية التقديمات خلالها، علاوة على توفير الظروف الملائمة والمناسبة وأبرزها الشفافية في أساليب العمل ذات التجارب غير المشجعة بالمطلق.
ثمة حاجة ماسة ومؤكدة لعشرات مليارات الدولارات، إضافة إلى أطر ومؤسسات دولية تتمتع بمواصفات عالية الكفاءة والنزاهة للقيام بعمل يكاد يكون غير مسبوق في بلد يحتاج لكل شيء، وهو أمر يستلزم مؤتمرات دولية لدول قادرة وراغبة على المساعدة، وذات خبرات موصوفة.
إن عمليات البناء وإعادة الإعمار تتطلب بيئة مالية واقتصادية لبنانية غير متوفرة في ظل الانهيار القائم بعد عام 2019، وهو واقع هش وغير مستقر، ولا يمتلك أسس الاستقرار والاستمرار بوتيرة مقبولة بالحد الأدنى. وهو أمر له علاقة بثقة غير متوفرة في الأساس.
وفي ظل هذا الواقع المرير تظهر ظروف أشد تعقيداً، لاتصالها بظروف مجتمعية غريبة عجيبة، فثمة انقسامات سياسية اجتماعية عمودية معقدة جداً، لم تكن يوماً قابلة للحل، رغم شيوع بعض المظاهر التي تشي بعكس ذلك. فالاحتراب الأمني والعسكري كان يبلغ ذروته في كل حالة ولو كانت بمستويات منخفضة من الأهمية، بحيث لا تحتاج إلى أي جهد لإشعال الشارع الملتهب أساساً، إذ إن قضية مهما بلغ عدم أهميتها من السهل أن تصبح قضية متصلة بطبيعة الحكم والنظام الذي شكل في الأساس مناسبة دائمة للانشقاق والتصارع.
ثمة عشرات المشاريع السياسية والدستورية التي طرحت لتركيبة النظام، كان آخرها اتفاق الطائف 1989 الذي بني النظام السياسي الدستوري عليه، والذي لم يحترم ولم يطبق، بحيث استغل العديد من الثغرات لارتكاب المعاصي السياسية والدستورية، الأمر الذي دعا البعض إلى إعادة النظر فيه، ونتيجة ذلك تمت خياطة اتفاق الدوحة في عام 2008 لترتيب بعض الأعراف السياسية والدستورية التي أرساها اتفاق الطائف، ومن ثم مطالبة البعض بإعادة صياغة عقد اجتماعي جديد، لبناء نظام حكم وهو أمر ربما يطرح بعد الحرب القائمة حالياً.
ربما التحديات الأخطر التي تواجه لبنان بعد الحرب هي التركيبة الديمغرافية التي تم اختراقها وتجاوزها واللعب فيها ربما عن قصد لأهداف وغايات بعضها معروف وبعضها مستتر، رغم معرفتها. ثمة جيش هائل من النازحين السوريين الذي تضخم عدداً وانتشاراً في غير منطقة لبنانية، ما اثّر على طبيعة التركيبة الديمغرافية اللبنانية الحساسة، والأمر ازداد تعقيداً مع ما أثير بموجات نزوح لبنانية من طائفة معينة إلى الخارج، وكلها نسبت إلى مشاريع ترانسفير إقليمي تمهيداً لإعادة تركيب نظم سياسية إقليمية جديدة.
بالمحصلة وخلاصة القول، ينتظر لبنان تحديات ذات مخاطر عالية بعضها يتصل بكيانه ووجوده كنظام ودولة في النظام الإقليمي الذي يمكن أن ينشأ، في وقت يعتبر الحلقة الأضعف في منطقة تعج بالمشاريع التي لا قدرة لدولها على أن يكون لها رأي فيها، وهو ما ينذر بتحديات أكثر خطورة، ومن السهل أن تصبح من المشاكل الإضافية التي تشرع لبنان على أعاصير لا حدود لها، ولا قدرة فعلية وعملية على مواجهتها ولا التأثير حتى النسبي فيها، وهو قدر لطالما واجهه لبنان ولم يكن قادراً على تجاوزه أو رده، وكأنه كان دائماً أمراً مقضياً.
0 تعليق