ثغرة الغرور في أكتوبر الآخر - ستاد العرب

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

في ظروف وأجواء ما بعد الهزيمة العسكرية (1967) دأب الرئيس جمال عبدالناصر على دعوة بعض القادة العسكريين الجدد لمشاهدة تسجيلات قادة الجيش الإسرائيلي عن وقائعها وما يترتب عليها.
بالتفاتة عميقة لما رآه أمامه قال رئيس أركان القوات المسلحة المصرية، الفريق عبدالمنعم رياض، الذي تولى منصبه للتو: «لقد عرفت يا سيادة الرئيس من أين سوف ننال منهم».. «إنها ثغرة الغرور».
أخذت الحقائق الجديدة تعلن عن نفسها، طرف يدرس أسباب هزيمته العسكرية ويعمل بأقصى ما يستطيع على تلافي أسبابها وإعادة بناء جيشه من تحت الصفر تقريباً على أسس احترافية.. وطرف آخر أفقدته نشوة النصر قدرته على قراءة ما سوف تأتي به الأيام.
لمدة ثلاث سنوات كاملة دخلت مصر حرب استنزاف طويلة تضافرت فيها إرادة القتال مع مقومات العلم العسكري الحديث، أدخلت إلى القوات المسلحة أجيالاً جديدة من خريجي الجامعات ونهض القطاع العام بواجبه في توفير ضرورات الحياة اليومية اللازمة لاستقرار مجتمع في حالة حرب.
تعتبر حرب الاستنزاف في الرواية العسكرية المصرية هي «بروفة حرب أكتوبر».
وقد دفع الجيش الإسرائيلي ثمن الغرور باهظاً في السادس من أكتوبر (1973)، غير أن السياسة خذلت السلاح وبطولات الرجال، وأفقدت مصر جانباً كبيراً من حقها في جني ثمار النصر.
بعد خمسين سنة بالضبط في السابع من أكتوبر 2023 دفعت إسرائيل ثمناً باهظاً آخر من ثغرة الغرور نفسها.
فوجئت في ذلك اليوم، قبل عام، بأوسع هجوم من المقاومة الفلسطينية داخل غلاف غزة، على غير توقع أو انتظار.
كان ذلك فشلاً استخباراتياً وعسكرياً ذريعاً هز ثقة المجتمع الإسرائيلي في نفسه، كما في مؤسستيه العسكرية والأمنية.
بدت إسرائيل عاجزة تماماً عن الدفاع عن نفسها دون دعم أمريكي كامل وشامل.
لم يكن مسموحا أمريكياً أن تهزم إسرائيل، أو أن تفقد قدرتها على إخافة من حولها.
أطلقت يدها في غزة تنكيلاً وانتقاماً من مواطنيها المدنيين في ما يوصف دولياً ب«حرب إبادة» لا مثيل لها في التاريخ الإنساني الحديث لاستعادة هيبتها المنتهكة كممثل أصيل للاستراتيجية الغربية في المنطقة.
جرت تظاهرات واحتجاجات بأنحاء العالم تندد بجرائم الحرب، التي ترتكب دون رادع من قانون دولي بغطاء أمريكي سياسي واستراتيجي شبه مطلق.
بدأت الهزيمة الأخلاقية تلقي بظلالها الداكنة على المستقبل الإسرائيلي. تراجعت إلى حد كبير تبعات الهزيمة الاستراتيجية التي لحقت بإسرائيل في الحرب بسبب الدعم الأمريكي المطلق، رغم ذلك فإنها لم تنتصر على أي نحو.
في نهاية المطاف الحروب تقاس بنتائجها السياسية.
لم تنجح إسرائيل طوال عام كامل من حسم أي من أهدافها المعلنة، لا اجتثت المقاومة ولا بدا أنها سوف تنجح في منع عودتها لحكم غزة مجدداً. لا استعادت رهائنها وأسراها ولا عقدت اتفاقاً يسمح بوقف إطلاق النار وفق تفاهمات متبادلة. طلبت نصراً مطلقاً لم يكن في مقدورها وطاقتها.
بفائض غرور آخر، فتحت جبهة قتال جديدة في الجنوب اللبناني تحت اسم «سهام الشمال» دون أن تتعلم شيئاً من تجربتها المريرة في حرب 2006.
لم تضع في اعتبارها استخلاصات تقرير «فينوغراد»، الذي استغرق نحو عامين في تقصي أسباب هزيمتها في تلك الحرب.
وسعت نطاق المواجهات فيما جيشها منهك بعد حرب طويلة في غزة واقتصادها يتآكل باطراد قدرته على الصمود.
مما أغوى إسرائيل بالحرب على لبنان ما تلقته بالتوقيت نفسه من حزم مساعدات عسكرية أمريكية بقيمة (8.7) مليار دولار. رغم ما لحق بالمقاومة اللبنانية من ضربات يصعب تحملها من اختراقات لشبكة اتصاله واغتيالات لأعداد كبيرة من قيادته ونزوح أكثر من مليون لبناني، إلا أنه أثبت في الميدان أن التوغل البري لن يكون نزهة.
كان القفز من قطاع غزة إلى الجنوب اللبناني تهرباً لدواع سياسية من استحقاق وقف إطلاق النار بصفقة تبادل الأسرى والرهائن.
أضيفت إلى مهام الحرب، إعادة 750 ألف نازح إلى مستوطناتهم في الشمال الإسرائيلي وتقويض القدرات الاستراتيجية للمقاومة اللبنانية دون أن يكون ذلك ممكناً، أو موثوقاً في قدرة إسرائيل على تحقيقه.
حظيت العمليات العسكرية في الشمال بما يشبه الإجماع في المجتمع الإسرائيلي، لكنه مرشح للتراجع تحت وطأة الخسائر البشرية الفادحة.
المأزق الحقيقي أنها استبدلت طلب إعادة الأسرى والرهائن بطلب آخر يصعب تحقيقه وهو إعادة النازحين إلى مستوطناتهم من دون أفق سياسي يعمل على التهدئة في كافة الجبهات.
لا توجد لدى الحكومة الإسرائيلية أية تصورات لليوم التالي، لا في غزة ولا في لبنان.
كان مثيراً للالتفات تكرار اللعبة نفسها، توسع بلا أفق سياسي للحرب.
حسب تصريحات أمريكية متواترة فإن هناك توجهاً لتهدئة تفضي إلى عودة النازحين الإسرائيليين، هكذا دون مقابل، كأنه تسليم مسبق بما تريده إسرائيل وعجزت عنه بالسلاح.
الأخطر في ما تطرحه الإدارة الأمريكية فك الارتباط بين جبهتي غزة والجنوب اللبناني.
هذا الطلب بالذات هو جوهر الحرب في الشمال، أن تترك غزة من دون أي إسناد.
إنها ثغرة الغرور نفسها التي تتصور أن العصف بأي حقوق للفلسطينيين ممكن دائماً، كأن دروس أكتوبر نسيت تماماً.

أخبار ذات صلة

0 تعليق