في الإصغاء الثّقافي - ستاد العرب

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

عبد الإله بلقزيز
سيكون عسيراً على ثقافةٍ يسود فيها خطابُ المتكلِّم وحدَهُ - مثل الثّقافة العربيّة المعاصرة - أن تشهد على ظاهرة الحوار والتّناظُر فيها بين من يُنتجون الرّأي والقول. في مثل هذه الثّقافة لا أحد يسمع أحداً أو يلقي بالاً لِما يقول، فترى الجميعَ منغمِسينَ في الكلام من جانبٍ واحد يُبْدون فيه ويُعيدون ما عَنَّ لهم الأمر. وفيها لا أحد يبدأ ممّا انتهى إليه سابقٌ، كأنّ مبتدأَ القولِ له وحده وهو مَن يدشِّنه.
هي، إذن، ثقافةُ البدايات الصِّفريّة ينطلق فيها فرسانُها من الأرض البِكْر التي ما وَطِئَتْها قَدَمٌ ولا مرَّ بها قَلمٌ أو لسان. وفي مثل هذه الثّقافة ينعدم الحوار، بل يستحيل تماماً: أكان حواراً مع مكتوبٍ سابق منحدرٍ من الماضي، أم مَعَ منتوجٍ معاصر وافد من خارجٍ أو نابع من الدَّاخل، إذ كل لحظةٍ فيها حلقة منفصلة عمّا قبْلها وما بعدها، منغلقة على عالمها الدّاخليّ، مكتفيّةٌ به عن غيرٍ خارجٍ عنها.
بيئةُ الحوار الوحيدة الممكنة هي، بالتّعريف، بيئةُ الإصغاء المتبادَل بين مَن يشتركون في الدّائرة الثّقافيّة عينِها، ويَعُونَ أنّهم يشتركون فيها ويمتحون منها القيم، أكانت دائرةً وطنيّةً أو دائرةً إنسانيّة كونيّة. وحده فعْلُ الإصغاء إلى الآخرين يحرِّر وعي صاحبه من شرانقه ويَصِلُه بعالمٍ من المعنى يُنْسَج من خارج فكره.
إنّه الفعل الذي يحُدّ من نرجسيّته فينبّهه إلى أنّه كائن اجتماعيّ وإنسانيّ وليس مجرَّد أنا مفرَدة ومجرَّدة، وأنّ وَعْيَه لا يتناسل من بعضه بل تتولّد مواردُه من الصّلات التي ينسجها مع غيره من أهل الرّأي، قدماء ومحدثين، من بني الجِلدة ومن الآخرين. هذه جميعها ممّا يجعل فعْلَ الإصغاء فعلاً معرفيّاً بنّاءً، ليس لأنّه ينطوي على اعترافٍ بمن نُصغي إليهم فقط، بل لأنّ ما نتلقّاه من معطياتٍ وقيم في عمليّة الإصغاء يتحوّل إلى جزءٍ من عُدّة المعرفة والتّفكير لدينا، وهو لذلك يجعل من الحوار إمكاناً متاحاً.
على أنّ حواراً مّا، داخل ثقافةٍ مّا، لا يتوقّف على مجرّدِ إصغاءٍ باردٍ لزيدٍ أو عمرو يتلقّى فيه سمْعُ المُصغي صوتَ متكلِّمٍ، إذْ لا يعدو هذا النّوع من الإصغاء أن يكون سمعاً أو استماعاً، أي فعلاً فيزيقياً لا إراديّاً تأتيه آلة السّمع العضويّة بالتِّلقاء، لمجرَّد أنّ صوتاً اخترقها واستثارها. هذا هو ما عَنَيْنا نقيضَه بتعريفنا الإصغاءَ بأنّه فعْلٌ معرفيّ، أي مهدوف إلى تسخير محصوله في عمليّة المعرفة والإدراك التي هي - في الوقت عينِه - من عُدّة الشّغل لبناء كلّ حوار. هذا يقودنا، بالتّالي، إلى التّمييز بين ضربيْن من الإصغاء أحدهما ليس ذا معنى ولا فائدة في المعرفة والحوار، وثانيهما يُطْلَب ويُبْنى عليه:
الضّرب الأول أشبهُ ما يكون بالإصغاء الزّائف، أي بفعلٍ سمعيّ يتَصَنّع الإصغاءَ ويوحي به، وما هو بالإصغاء على الحقيقة. هذا نوعٌ من تحايُلات تزخر بها الحياة الثّقافيّة والعلميّة في بلادنا العربيّة وفي العالم كافّة.
وهي تهدف إلى تَحْسِنَةِ صورةِ مَن يوحي به وسيرتِه الثّقافيّة كفاعلٍ «يحترم» قيم المعرفة ويتشبّع بها، ويبدي الاهتمام بما يقوله غيره ويكتبه. كثيرون يأتون هذا النّوع من الإصغاء الشّكليّ لدفع تُهَمٍ من قبيل الإنكار (الثّقافيّ) والإقصاء والتّجاهُل تُلْقَى في وجوههم من الخصوم، غير أنّ القليل من التّدقيق والاستبار قمينٌ بإماطة النّقاب عن المَخفيِّ والمحجوب، إذ يسعك أن تَجد تحت أديمِ كلِّ مدَّعٍ الإصغاءَ متكلِّماً محتكراً للكلام لا يُلقي بالاً إلى غيره من أهل الرّأي والتّعبير.
والحقّ أنّ زيْف ذلك الإصغاء المُنْتَحَل ليس يستعصي على الكشف والبيان، إذْ هو لا يلبث أن يتمظهر، سريعاً، في خطاب منتحِله حين يتكلّم أو يكتب فلا تعثُر في مَقولِه ومكتوبه عن أثرٍ مّا لِما كان يتصنّع الإصغاء إليه. كلّ الذي ستجده في كلامِه كلامُه وحْدَه من دون غيره. هكذا تنكشف، سريعاً، حيلةُ المتكلِّم وحده في هذا الضّرب من الإصغاء الكاذب الذي لا يكون به حوارٌ أبداً.
أمّا الضّرب الثّاني منه فهو ما يستحقّ نعتَه بِالإصغاء الصّادق، بل ما ينطبق عليه وصفُ الإصْغاء. مَن يُقْدِم عليه بهذه الخُلُقيّة المعرفيّة سالك دربَ المعرفة حكماً، لأنّ درْبها يتّسع لأصواتٍ عدّة ونصوصٍ عدّة وتنعدم فيه - أو تكاد أن تنعدم - ظواهرُ النّرجسيّة الثّقافيّة والسّاديّة الثّقافيّة التي يتكرّس بها سلطانُ المتكلِّم وحده.
يملك من ينتمي سلوكُه الثّقافيّ إلى هذا النّوع من الإصغاء إرادةَ المعرفة بما هي عمليّةٌ تغترض الانفتاح على آراء الآخرين، واستدماجها في منظومة التّفكير، أو وضْعَها موضعَ فحصٍ نقديّ... إلخ، أي النّظرَ إلى تلك الآراء والإنتاجات من حيث هي من موارد المعرفة، الأمرُ الذي يترتّب عنه أنّ رأيَ من يتحلّى بهذه القيم يميل إلى التّواضع أكثر، ويتشبّع بفكرة النّسبيّة أكثر، وتتقلّص فيه مساحةُ الادّعاء الوسيعةُ في ثقافة المتكلِّم وحده. ما أغنانا عن القول، إذن، إنّ هذا الإصغاء الإيجابيّ وحدهُ ذلك الرّأسمالُ المعرفيّ الذي يسع كلّ ثقافةٍ ساعيةٍ نحو توسعةِ مساحات الحوار والمناظَرة فيها أن تتسلّح به وتتوسّله أداةً في عملها.
[email protected]

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق