يعيش النظام العالمي مرحلة شديدة التقلب والمفاجآت، عنوانها الأبرز تراكم الأزمات وغياب النظرة الواثقة من المستقبل، وانعدام الثقة بالمؤسسات الدولية التي سقطت جميعها في الاختبارات ذات الصلة بحقوق الشعوب وانتهاك القوانين والمواثيق، ما يهدّد بتعزيز التمرد والإفلات من المحاسبة، ويُسهم في تشكيل عصر جديد تكون فيه الكلمة العليا للمصالح وليس للقيم.
مثل هذه المؤشرات وغيرها تؤكد أن العالم يعيش مرحلة انتقالية بين ما سبق وحقبة غامضة تتشكل يفترض أن تسود ردحاً من الزمن، ولكنها مرحلة محفوفة بالمخاطر، وقد تدفع إلى تفاقم الأزمات الراهنة واصطناع أخرى. وربما يكون لهذه الانطباعات صلة بالتغيير المرتقب للإدارة الأمريكية مع عودة الرئيس الجمهوري المنتخب دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، ولها صلة أيضاً بحالة عدم اليقين التي تسود العالم، وخصوصاً دول الاتحاد الأوروبي، التي تجد نفسها في مفترق طرق تاريخي بين الاستمرار في التبعية للهيمنة الأمريكية أو البحث عن فرصة للاستقلال بالقارة، ودفعها إلى تحمل مسؤوليتها منفردة أمام التحديات الراهنة والمستقبلية، وأهم هذه التحديات ما يسمّونه التهديد الروسي، ثمّ الغموض الصيني، الذي ينكفئ فترة ثم يستيقظ، والاضطربات الدولية المباغتة، التي باتت تحدث دون سابق إنذار.
ما حدث في سوريا بعد إسقاط نظام بشار الأسد، وتوجه المواقف الغربية إلى الانقلاب على سياساتها السابقة، لم يأتِ من فراغ، بل كان نتيجة ارتباك يعيشه المشهد الدولي، وسقطت معه الكثير من الخطوط الحمراء، التي كان المساس بها، حتى وقت قريب، جريمة لا تغتفر، مثلما سقطت خطوط حمراء أخرى انتهكتها إسرائيل آلاف المرات في حرب الإبادة التي تشنها على الفلسطينيين في قطاع غزة. لقد حدث الكثير، ولكن الدول الكبرى لم تفعل شيئاً سوى إطلاق البيانات الجوفاء، ما يعكس حالة من النفاق الدولي غير المسبوقة في التعامل مع كل القضايا التي تفرض النزاهة والمحاسبة والانتصار إلى روح القوانين والمواثيق الدولية.
المرحلة المقبلة ستكون مليئة بالمواقف المثيرة للدهشة والاستغراب، وبعضها سيكون انقلاباً على كل ما مضى، في ظل التهافت على المصالح والبحث عن موقع في عالم يشتد غموضه من عام إلى آخر. وبعد نحو شهر ستأتي إلى البيت الأبيض إدارة ترامب الثانية، وقد جرى التمهيد لها بسلسلة من التعهدات والتهديدات، أثارت كثيراً من المخاوف والتساؤلات، خصوصاً لدى حلفاء الولايات المتحدة الغربيين، في ظل تباين علني حول إدارة كثير من القضايا الخلافية. وأول اختبار سيكون حول الوضع في أوكرانيا، مع توالي المؤشرات عن صفقة يجري الترويج لها، ويدعمها ترامب شخصياً، وتقضي بإنهاء الحرب مقابل احتفاظ روسيا بالمناطق التي سيطرت عليها، ومنح ما تبقى من أوكرانيا تعهدات أمنية ووعداً بعيد المدى بضمّها إلى حلف شمال الأطلسي «الناتو»، أو على الأقل الاتحاد الأوروبي. والطريق إلى تنفيذ هذه الصيغة قد لا يخلو من مفاجآت، والحال نفسه ينطبق على الوضع في الشرق الأوسط، الذي يتأهّب لإنهاء العدوان الإسرائيلي على غزة، ولكن لا أحد يملك يقيناً ما سيحمله اليوم التالي من تغيرات لا يبدو أنها ستتوقف أو ستكتفي بما حدث.
0 تعليق