الشارقة: جاكاتي الشيخ
رغم عدم اقتصار بعض الفنانين على دراسة الخط العربي، وميولهم إلى مجالات أخرى قد تكون سبيلاً إلى العمل والعيش، إلا أن ذلك لا يمنعهم من المضي في تحقيق أحلامهم الإبداعية وشحذ مواهبهم، من خلال الدراسة الحرة لهذا الفن، والتعمق فيه، نظرياً وتطبيقياً، حتى يتمكنوا من تقديم أعمال خطية حفية بالإشادة والتناول، مثل الخطاط الفلسطيني أحمد نافذ الأسمر.
رغم تخصّص الفنان أحمد الأسمر في الهندسة الزراعية، فإنه خطاط مبدع، استطاع تقديم العديد من الأعمال الخطية اللافتة، وذلك لتمكنه من جميع الخطوط العربية التقليدية، ولو بدرجات مختلفة، مثل: خطوط الثلث، والنسخ، والرقعة، والديواني، إلا أنه يجد نفسه مبدعاً أكثر في الثلث الجلي، الذي خط به أغلب لوحاته، وهو ما تسرّب إليه من خلال تأثره بالعديد من الخطاطين الكبار، الذين عمل في بداياته على تقليدهم ومحاولة مجارات ما يقدمونه من إبداعات، فقد انكب على دراسة أعمال الخطاطين العراقيين، ثم على أمثالهم من الأتراك، حتى استطاع أن يعرف كيف يقدم أعمالاً إبداعية ترقى بخصوصية لمساته، وتبتعد عن ذلك التأثر، مثل اللوحة التي بين أيدينا.
* ضبط
اختار الأسمر لهذه اللوحة نص الآية 40 من سورة إبراهيم، التي يقول فيها تعالى: ﴿رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ﴾، وهي آية رجاء من إبراهيم عليه السلام، دعا فيها ربّه لنفسه ولذريته، فسارت على ألسنة المؤمنين، وقد خطها الفنان بخط الثلث الجلي، الذي لا شك أن تفضيله للكتابة به، يرجع إلى رغبته في تقديم عمل فني بديع وبشكل مُيَسَّر، رغم صعوبة هذا الخط وتعقيده، إلا أن جماله يغري بالإقبال عليه، حيث يستفيد الفنان مما تتسم به خصائصه الخطية من مرونة، وإمكانية للتركيب المتناسق، والتشابك المدروس بين حروفه، ما يسهل كتابتها في هيئات متنوعة، فتكون مستديرة أو مبسوطة، ومعتدلة أو متساوية، بحسب ما يرتئيه الخطاط من ضرورات إبداعية وجمالية، لتتجلى فيه عبقرية الفنان الذي يتمكن من ضبط تلك الخصائص والمميزات، دون أن يؤثر ذلك في وضوح تلك الحروف والكلمات، نظراً لما تتميز به خطوطه من سماكة، تبدو معها كلماته جَليّة، ومتناغمة مع التشكيل والتنقيط الذين يزينا العمل، ويُتمّا بهاءه، ليخرج مكتملاً لمشاهده.
* إشراق
صمم الأسمر لوحته في تكوين على شكل محراب، استدعاءً للمعني الكلي للآية، فهي آية رجاء وتبتّل وصلاة لله، وانطلق في كتابتها من الأسفل، في عدة مستويات، فكتب في المستوى الأول «رَبِّ» المستأنفة للدعاء، وقد جعلها حجر الزاوية في قاعدة التكوين الخطي، للدلالة على اتكاء الداعي في رجائه على إيمانه بربّه، وكتب «اجْعَلْنِي» مُركّباً بدايتها على سابقتها، ليؤكد المعنى السالف، لأن استخدام فعل الأمر ممن هو أسفل لمن هو أعلى منه دلالة لقوة الرجاء والحاجة إلى تحقيقه، ثم انتقل إلى المستوى الثاني وكتب كلمة «مُقِيمَ» منفردة، وبشكل عريض، للإشارة إلى رغبة الداعي في استمرار ما يرجوه، وهو إقامة الصلاة، وانتقل إلى المستوى الثالث وكتب «الصَّلَاةِ» منفردة كذلك، ولكنه أخّر بدايتها قليلاً، لتُتم المعنى السالف وتؤكدّه، خاصة أنها تبدأ بعد حرف القاف من كلمة «مُقِيمَ»، ثم انتقل إلى المستوى الرابع وكتب «وَمِن» التي أرسل نونها مائلة وعكف طرَفها ليُركّب عليها كلمة «ذُرِّيَّتِي»، عاكساً استدراك الداعي ليشمل ذريّته بذلك الرجاء، ثم كتب في المستوى الخامس «رَبَّنَا»، وقد ركّبها على «ذُرِّيَّتِي»، حين قاطع معها حرفي الذال والراء، تأكيدا لذلك الاستدراك الموحي بالجمع، إذ بدأ الدعاء بـ«رَبِّ»، وها هو يستمر بـ «رَبَّنَا»، ثم انتقل إلى المستوى السادس وكتب «وَتَقَبَّلْ» منفردة وبشكل عريض وكبير، حتى جعلها تحتضن كلمة «دُعَاءِ» التي كتبها في المستوى السابع العلوي، حيث ركبّها عليها، وقد كتبها بشكل أصغر لتقوم بوظيفتين إحداهما معنوية لتمام الرجاء وتقبّله بلفظ الدعاء، والأخرى شكلية لتمام التكوين الخطي للمحراب.
إن مما يثير الإعجاب في هذا العمل؛ الإتقانُ المتمثّل في عدة أوجه، ففي الكتابة يظهر من خلال العديد من اللمسات كتنويع شكل الحرف الواحد، كحرفي الواو والعين، وبسط بعض الحروف ومدّها عمودياً وأفقياً، كالألفات وحرف الياء، بالإضافة إلى ضبط أمكنة النقاط والتشكيل والخطوط التزيينية، التي يفرضها خط الثلث الجلي، وفي لون الحبر استخدم حبراً شفافاً، أضفى استخدامه على الخلفية البرتقالية بهاءً خاصاً، وكلها لمسات تجعل المشاهد أمام عمل خطي مُشرق الجمال.
* إضاءة
ولد أحمد نافذ الأسمر في فلسطين سنة 1967، ودرس حتى حصل على بكالوريوس هندسة زراعية من جامعة النجاح الوطنية في فلسطين سنة 1993، وعمل مديراً مالكاً لشركة دار الخط العربي لفنون الدعاية والإعلام من 1990 وحتى 2004، ورئيساً لقسم الإعلام الزراعي في وزارة الزراعة من 2004 وحتى 2011، واختير سنة 2012 من بين أفضل 20 شخصية فنية ومؤثرة في فلسطين، وهو عضو جمعية الخطاطين العراقيين منذ سنة 1997، وعضو جماعة الخطاطين الفلسطينيين منذ سنة 2012، وعضو لجنة تحكيم في الورشة الوطنية الخامسة لفن الخط العربي في مدينة المدية الجزائرية سنة 2009، وعضو لجنة التحكيم والفرز في ملتقى الشارقة الدولي لفن الخط العربي سنة 2018، وحاصل على 8 جوائز دولية، منها 4 جوائز أولى في الخط العربي.
0 تعليق