الرقاع الجلي.. شاعرية البصر وروح التأمل - ستاد العرب

0 تعليق 0 ارسل طباعة تبليغ حذف

الشارقة: عثمان حسن

يبدع الخطاطون العرب، في مقاربة أنواع مختلفة من الخطوط النادرة، في غمرة انشغالهم بتقديم ابتكارات جديدة، تعزز جماليات هذا الفن العربي الأصيل، ومن هؤلاء المصري مؤمن الشرقاوي، الذي نقرأ إحدى لوحاته الخطية التي استخدم فيها الرقاع الجلي لكتابة الحديث النبوي الشريف «أعوذ بكلمات الله التامات من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة»، لكن الشرقاوي يكتفي بجزء من هذا الحديث وهو: «أعوذ بكلمات الله التامات من كل كل عين لامة».
روى الكثير من المفسرين والصحابة عن أسباب ومناسبة ورود هذا الحديث عن الرسول الكريم، كما فسروا الهامة بأنها كل ما له سم، وقيل: إن الهوام حشرات الأرض، والعين اللامة: هي العين التي تصيب بالسوء وتلحق الضرر بمن تنظره.
والحديث في مجمله يقر بقدرة الله، سبحانه وتعالى، على صرف الشرور عن عباده، ولقد كان النبي، صلى الله عليه وسلم، يستعيذ بالله مما يخاف ويحذر، ويعوِّذ غيره، وعلى المؤمن أن يلتزم بذلك ويستعيذ بالله من شرور خلقه. والتعوذ بالله تعالى وكلماته معناه الالتجاء إليه، عز وجل، لأنه سبحانه هو القادر على صرف الشرور عن عبيده، كما أن كلمات الله هنا، بحسب المفسرين محمولة على أسمائِه الحسنى، وصفاته العلى، والكتب المنزلة من عنده سبحانه وتعالى، والمقصود بها المعوذتان: (سورة الفلق وسورة الناس)، أو المقصود بها بها القرآن الكريم.
في الحديث ترد كلمة (التامة) وهي صفة لازمة لكلمات الله سبحانه، بمعنى الخالية من النقص، أو النافعة، أو الشافية.. وهكذا.
وقوله، صلى الله عليه وسلم، «مِن كُلِّ شَيطانٍ وهَامَّةٍ»، أي: مِن كل شيطان إنسيا كان أو جنياً، وفي الحديثِ: تثبيت وأهمية خاصة لفضل التعوذ بالذكر الوارد في الحديث.
جماليات التكوين
عادة ما يقترن خط الرقاع عند الخطاطين بخطي التوقيع والثلث، وهو يخالف هذين الخطين في ما يأتي: فهو أولاً أصغر حجماً من خط التوقيع، ويمكن القول إنه ينزل بمنزلة ابن الثلث الصغير، على خلاف خط التوقيع الذي يطلق عليه ابن الثلث الكبير، كما أن خط الرقاع الذي استخدمه هنا بحرفية مؤمن الشرقاوي هو خط أميل إلى التدوير من قلم خط التوقيع، وقلمه -أي الرقاع- أقصر من الثلث والتوقيع، وهو خط يغلب عليه طمس الحروف الوسطية مع النهائية المتصلة قبلها، وربما تكون هذه من العلامات الفارقة في الرقاع عن غيره من الخطوط المعروفة.
كما أن حروف خط الرقاع العمودية، تميل قليلاً بشكل عام نحو اليسار من أعلى، كما يبرز بشكل واضح في اللوحة التي أنجزها مؤمن الشرقاوي، خاصة حين نتأمل حرف الألف في كلمتي (التامات) و(بكلمات) حيث يميل هذان الحرفان بشكل واضح نحو اليسار من أعلى، وما يزيد في جمال هذه اللوحة، وهذا يحسب لخط الرقاع أن سطورها ترتفع إلى الأعلى في نهايتها على خلاف الثلث، وغالباً ما تكتب حركات خط التوقيع بقلم أصغر من خط الكتابة.
نلحظ في هذه اللوحة نسقاً متناعماً للحرف العربي، وهو راجع لقدرة الخطاط الشرقاوي على بناء تكوين هندسي لا يقبل الفراغ، ما يزيد من جاذبيته البصرية ويجلب للناظر الكثير من الراحة النفسية، وهو يتأمل عناق الحروف لبعضها بعضاً على سطح اللوحة.
كما حرص الشرقاوي على تزيين اللوحة بكل ما يلزم من عناصر الإبهار البصري، فهو أولاً كتب نص الحديث باللون الأسود، وما يرمز إليه هذا اللون من متانة وقوة ووضوح، كما راعى أن تكون خلفية اللوحة بشكل عام، باللون البني أو تدرجاته، وهذا اللون عرف برمزيته وفلسفة استخدامه عند الخطاطين بوجه عام، فهو لون طبيعي محايد وكثرة استخدامه في الخط العربي من أجل تحقيق جملة من الشروط، أبرزها التوازن الداخلي في الإنسان، وتكريس القيم الراسخة، ناهيك عن كون اللون البني يشير في رمزيته إلى الحكمة والتوجيه، والأخلاق والقيم المتوارثة.
تدفق شاعري
من ناحية أخرى، ولجذب الناظر إلى سحر اللوحة، حرص مؤمن الشرقاوي على مزيد من الإبهار البصري، بتزيين لوحته بالزخرفة الإسلامية، مغطياً مساحة تعادل ضعفي ما استثمره من مساحة لكتابة نص الحديث الشريف، والزخرفة هنا، تزيد من رشاقة وجمال اللوحة الخطية، بما فيها من تصاميم تعكس روح الحركة والتدفق الشاعري عن الناظر، وهي بكل تأكيد من نوع الزخرفة النباتية التي يكثر استخدامها في اللوحات الخطية، وتبرز القيمة التشكيلية بما فيها عناصر تزيينية وجمالية لتضفي مزيداً من التناغم من خلال ما بذله الخطاط من حرفية في تنسيق الوحدات الزخرفية، وفق أبعاد رتبها الشرقاوي بشكل متناسق وجميل لتكسب اللوحة مزيدا من التدفق والحركة.

أخبار ذات صلة

0 تعليق