عروض تتماس مع تغيرات البيئة وفكرة التسامح - ستاد العرب

0 تعليق 0 ارسل طباعة تبليغ حذف

مسقط: محمد إسماعيل زاهر
المسرح بوتقة لجميع الأفكار، وساحة لتجريب مختلف الفنون، يتنقل بالمشاهد بين عوالم لا نهائية، يحرك خياله ويثير توقعاته، ويناقش أسئلته المؤرقة عبر تقنيات عدة، تتماس معنا، ففي حضرة الخشبة نكون أقرب إلى ذواتنا وما نحمله من هموم، وكل عاشق للمسرح يعرف تلك السمات جيداً، وهو ما أكدته مجموعة عروض إمتاعية ضمن الدورة الخامسة عشرة من مهرجان المسرح العربي في العاصمة العمانية مسقط.
في العرض التونسي «البخارة»، من إخراج صادق الطرابلسي، والذي استضافته خشبة «قصر البستان»، أطروحة جديدة، وغير مطروقة في الأعمال المسرحية العربية، وتتمثل في نقاش مخاطر البيئة. تنفتح ستارة العرض على أجواء ضبابية، وأبواب ضيقة تطل منها عدة شخصيات، ولا يلبث أحدهم أن يخرج إلى مقدمة الخشبة ليصرخ «أين الشمس؟»، وفي الخلفية هناك موسيقى ترقبية، ثم يحكي أبطال العرض قصصهم مع التلوث غير المسبوق الذي تتميز به مدينة قابس التونسية، تلوث أدى إلى أمراض تنفسية، سرطان، أجنة مشوهة... وتصل الدراما إلى أقصاها عندما نعلم أن أحدهم لم يكن يعرف لون الشمس، ويعتقد أن الضباب الكثيف المحيط دائماً بالمدينة هو السماء الطبيعية.
تقشف
يعتمد العرض على ديكورات متقشفة، وهناك أولوية للتمثيل والأداء الجسدي والموسيقى، وهناك شاشات للعرض السينمائي في الخلفية، والرسالة واضحة ومباشرة، وربما مؤلمة، تتزايد وتيرتها الدرامية عندما يحكي آخر عن معاناته لمدة أربعين عاماً مع التلوث.
يستند العرض كما أكد صناعه إلى أحداث حقيقية، بل يخرج أحد الممثلين من ثوب الشخصية التي يجسدها، ليتحدث إلى المشاهدين مباشرة عن تجربته الحقيقية مع التلوث. ونجح العرض من خلال الانتقالات السريعة والحس الإنساني العالي في الانتقال بالمشكلة من طابعها المحلي ليكسبها سمة عالمية، فالبشر في كل مكان لهم الحق في الحصول على هواء نقي والعيش في بيئة صحية.
ومن الهم الإنساني العام، إلى التركيز على الحياة الفردية بأفراحها وأحزانها وتقلباتها وتشابكاتها وتعقيداتها، حيث جاء العرض السوري «عد عكسي»، من إخراج هنادة الصباغ، وهو عرض دمى صامت، يبرز بدوره جمالية المسرح وقدرته على التعبير عن مختلف الحالات الإنسانية، والعمل يتقاطع بصورة كبيرة مع الفيلم الشهير «الحالة المحيرة لبنجامين بوتون»، فنحن أمام إنسان يولد عجوزاً، ليعيش عمره بالعكس، ولذلك تزين ساعة رملية ديكور الخشبة، يعبر تساقط الرمل فيها عن مرور الزمن بالنسبة للبطل-الدمية، وكان قصر العرض وسرعة تغيير المشاهد دلالة أكيدة على ما تود المسرحية قوله، فالحياة ليست أكثر من لحظة، تمر سريعاً وتتسرب بخفة من بين أيدينا كما الرمال.
وبرغم صعوبة فن الدمى، وأن العرض جاء صامتاً، إلا أنه نجح في إيصال مشاعر عدة إلى المتلقي، فالبطل الدمية، يراقب حياته من نهايتها إلى بدايتها، من رؤيته لأحفاده حتى موته، وفي كل لحظة هناك أحاسيس متناقضة ومتضاربة يعبر عنها براعة تحريك الدمى من خلال حالات نشاهدها تسقط أرضاً أو تتطاير في فضاء الخشبة، وكأنها تراوح بين السعادة والبؤس، والأمل والألم، تتحرك بمنتهى الخفة بين بدايات متعثرة ونهايات لا مفر منها، وهي في مراوحتها تلك تعبر عن دواخل كل إنسان فينا.
دلالات
أما العرض الإماراتي «كيف نسامحنا» لفرقة مسرح الشارقة الوطني، ومن تأليف إسماعيل عبدالله، وإخراح محمد العامري، فيدفع المشاهد للسؤال أولاً عن دلالة العنوان التي تبدو ملتبسة للمرة الأولى، إلا أن مسار الأحداث وتصاعدها والرسائل التي تتضمنها الحكاية تدفع المشاهد إلى فهم المغزى، فالسؤال موجه إلى الضمير الجمعي لكل البشر: كيف نسامح أنفسنا على كل الأخطاء المحيطة بنا؟، هنا يتحول المسرح إلى صرخة من أجل العدالة والحرية والخير والجمال.
ينفتح العرض على ساحة إعدام وامرأة معلقة في مشنقة، وهناك راوٍ يعلق على الأحداث ويطرح سؤالاً موجعاً: «لماذا تموت الأمهات؟»، ويتأجل تنفيذ حكم الإعدام لأن رئيس المحكمة الذي أصدر الحكم، ولا بد أن يحضر تنفيذه توفي، ولا مفر من انتظار رئيس المحكمة الجديد، وفي المشهد قبل الأخير للعرض، يتكرر الموقف نفسه، فالمرأة تنتظر حكم إعدامها، وبين الموقفين هناك سرد لأسباب إدانة تلك المرأة، فهي لا تستحق الإعدام في الحقيقة، والجريمة التي ارتكبتها كانت في لحظة دفاع عن النفس، والحكم يذكرنا ب«جودو» الذي لا يأتي أبداً، في مسرحية صمويل بيكيت الشهيرة، ولكنه لا يأتي في هذا العرض نتيجة لإرادة المؤلف والمخرج، فالبطلة لا تستحق الإعدام.
هذه المرأة كانت تسكن في أحد سراديب العمارات الشاهقة، التي يقطنها مجموعة من الأثرياء، وتعطف على المساكين وكل من يحتاج إلى المساعدة والعون، وترعى الأرامل والأيتام ومع تصاعد الأحداث تكتسب عداوات خمسة من السكان، نعلم من الحوارات أنهم من كبار الفاسدين، والمرأة تعرف الكثير من أسرارهم، ما جعلهم يفكرون في التخلص منها، وينجحون في سجنها وتعذيبها، إلا أنها تنجح في قتل أحد معذبيها، فتدان ويحكم عليها بالإعدام. وفي المشهد الختامي من العرض يمنحنا المؤلف طاقة أمل، ففجأة تفك المرأة الحبل من حول عنقها، وبحركات رمزية تضغط على عصا على الخشبة فتتساقط شخصيات الفاسدين الواقفين خلفها يشاهدون إعدامها المنتظر، أسفل الخشبة واحدة تلو الأخرى، وتمسك بالخشبة نفسها لتحاول أن تحطم الجدران المحيطة بها، وكأنها تثأر من كل القيم السلبية التي عاشتها: الفساد والظلم.

أخبار ذات صلة

0 تعليق