حوار: جاكاتي الشيخ
الحوار مع بعض الكتاب يشبه قراءة كتب جديدة لهم، حيث يدخلوننا إلى عوالمهم الشخصية بذات السلاسة التي يشدّوننا بها إلى عوالمهم الكتابية، فتصير إجاباتهم نصوصاً موازية تُؤطّر تجاربهم الإبداعية، وتضيء جوانب غير معروفة من هوامش حياتهم، ومن أولئك الروائية الجزائرية أحلام مستغانمي، التي برزت كواحدة من أهم الكاتبات العربيات في العصر الراهن.
إن الإرث الأدبي الذي راكمته أحلام مستغانمي على امتداد خريطة عمرها الإبداعي، بَوَّأها مكانة خاصة في قلوب القراء، وذلك بفضل قدرتها على تطويع اللغة، وتفجير المشاعر بمناجم كنوزها، في جمل قصيرة، عزَّ على الكثير من المبدعين الوصول إلى إكسيرها السحري.
«الخليج» التقت أحلام مستغانمي، التي كانت شخصية العام في الدورة ال 43 من معرض الشارقة الدولي للكتاب الذي نظم في الفترة من 6 وحتى 17 من شهر نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، وأجرت معها حواراً، تحدّثت فيه عن تكريمها، وما تعنيه لها الشارقة والإمارات، حيث أكدت أن الشارقة تشبهها أصالةً وانتماءً، وهي نقطة فارقة على خريطة العروبة، وتطرقت أيضاً في حديثها إلى هواجس الكاتب، وعلاقته بقضاياه وقُرَّائه.. إلخ.
ما القيمة التي يمثلها تكريمكِ في الشارقة، وأنت التي زهدت في التكريمات على مدى نصف قرن؟
- منذ جائزة نجيب محفوظ التي فزتُ بها قبل ربع قرن، والتي لا تتعدّى مكافأتها المادية ما يتقاضاه البعض ثمناً لمقال، زهدت في الجوائز الأدبية، لقناعتي بأن تحوّل الكاتب إلى صائد للجوائز يزيد في حسابه المصرفيّ لا من مقامه الأدبيّ، ويضخّم غروره بدل أن يغذي تواضعه، الذي هو حبر الإبداع، فبعد الجائزة الكبيرة الأولى، ينبغي أن يكون هاجس الكاتب، الدفاع عن اسمه الذي غدا «كبيراً»، كي لا يكون نجاحه أسهماً نارية سريعة الانطفاء، فالجائزة الكبرى التي عليه السعي إليها، هي خلود أعماله، وهي جائزة يمنحه إياها أجيال القرّاء، لا شلّة المشرفين على توزيع الجوائز على الموالين والأصدقاء.
أكبر الجوائز لا جهة ترعاها أو تشرف عليها، بل يمنحها الزمن للكاتب بعد رحيله، عندما لن يكون حاضراً للترويج لاسمه، لذا سبق أن قلت، لن أدري يوماً إن كنت حقاً كاتبة، فنحن نحتاج إلى موتنا لنتأكد من ذلك، فوحده الزمن ناقد لا يظلم ولا يجامل أحداً، ووحده بإمكانه منحك «الخلود» أو تجريدك منه، برغم جوائزك، ذلك لأنّ الكاتب لا يساوي الجوائز التي فاز بها، إنّما القضايا التي يدافع عنها، أي يساوي مواقفه التي تجعله يفضِّل الكرامة على التكريم، لذا أباهي بالجوائز التي رفضت، مباهاة غيري بما حصد.
أصالة وانتماء
وماذا عن وقع تكريم الشارقة لك؟
- هذا التكريم أسعدني، لأن الشارقة تشبهني أصالةً وانتماءً، الشارقة نقطة فارقة على خريطة العروبة، فهي قلعتها، ومنارتها، ملكت قلوبنا بالفكر والأدب، وبسقفها العالي لحرية الإبداع، إنها الشاهقة علماً وتواضعاً مثل حاكمها صاحب السّمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى، حاكم الشارقة، ، الذي اختار القلم صولجاناً، وحكم مستنِداً لحكمته وطيبته، كما أن قرينته سمو الشيخة جواهر بنت محمد القاسمي، رئيسة المجلس الأعلى لشؤون الأسرة، صاحبة إشعاع إنساني، وهو إرث عائلي حوّلته الشيخة بدور بنت سلطان القاسمي، رئيسة مجلس إدارة هيئة الشارقة للكتاب، إلى إنجاز ثقافي مبهر، يباهي به كل عربي، كما لو أنه إنجازه الشخصي.
ماذا تعني لك الإمارات بشكل عام؟
- ارتبطت الإمارات في ذاكرتي بمجلة «زهرة الخليج»، التي كتبت صفحتها الأخيرة على مدى عقدين من الزمن، ووثقت لسنوات على تلك الصفحة خواطري وهواجسي وأحلامي، ما جعل لي في البلاد كثيراً من المتابعين والأحباب، وهي أيضاً مرتبطة في ذاكرتي بشهر رمضان المبارك، فلأكثر من خمس عشرة سنة صُمت الشهر الكريم لدى أحبابي، بيت الخيلي الطيبين الكرام، الذين تميزوا ببساطة أهل البادية وخصالهم، حتى لتكاد تخالهم ضيوفاً عليك.
تسرّب من خلال كلمتك في افتتاح معرض الشارقة الدولي للكتاب، شعور عميق بالحزن، ماذا عن ذلك الشعور؟
- لا يمكن للمرء أن يخفي الحزن، عندما يكون عميقاً، فواجع الوطن العربي تمكّنت مني منذ سنوات، بل منذ جئت إلى الدنيا، أيام اجتياح العراق مرضت بالمفهوم الحقيقي للكلمة، ثم أضيف لها اليوم مآسي سوريا، والسودان، واليمن، والآن غزة ولبنان، بفظاعات تتجاوز القدرة البشرية على التحمل، رغم ذلك، أصرّ على قضاء يومي أمام الفضائيات الإخبارية في انتظار معجزة ما، فشعوري بالعجز أمام ما يحدث دمّرني حقاً، ودفعني في يناير الماضي إلى تقديم استقالتي لليونسكو، بعد أن شغلت مهام سفيرة للسلام على مدى ثماني سنوات، أعلن عن هذا لأول مرة، فلا يعنيني حمل هذا اللقب إن لم يكن بإمكاني أن أفعل به شيئاً، مأساة غزة غيّرت علاقتي بكل شيء، حتى بكوب الماء، وبالرغيف، وبالسرير الذي أنام عليه بأمان، ضرب من العقاب أن تعيش اليوم بمشاعر إنسانية.
أمانة الذاكرة
هل تعتقدين أن للكاتب مسؤولية تجاه قرائه؟
- الكاتب أمين على الذاكرة، وهي أخطر المسؤوليات على الإطلاق، فعلى رواية التاريخ يقوم كل صراع، وعلى روايته نؤسّس ذاكرة أجيالنا القادمة، وقد وضعتُ هدفاً لنفسي هو توثيق التاريخ العربي خلف قصص عاطفية، لتسهيل إيصاله وحمايته من النسيان، ذلك لأن ثمة مسؤولية للكاتب تجاه قرائه تزداد كلما ازداد انتشارُه، لديّ 16 مليون متابع بين صفحتي الرسمية في «فيسبوك» وحساباتي الأخرى في منصة «إكس»، و«إنستغرام»، وما عاد من حقي أن أكتب بالحرية التي كتبت بها أعمالي الأولى، من دون الأخذ بعين الاعتبار تأثيري في قناعات وقراراتِ الآلاف من القراء، فعندما تصبح أعمال كاتب، ضمن المناهج الدراسية في أكثر من بلد، تتولى الأجيال، تناقل أفكاره وتخليدها.
هل الخلود هاجسك؟
- لا ليس الخلود بالمفهوم الشخصي هاجسي، بقدر ما يعنيني خلود الأفكار والقيم التي آمنت بها ودافعت عنها طويلاً، أن تخلد تلك الأقوال التي كنت أحتاج إلى عمر من الخيبات لبلوغ حكمتها، الجمل التي أعدت كتابتها أكثر من مرة، الحياة التي قضيتها واقفة، رافضة الجلوس على المبادئ، حياءً من حكم التاريخ، ذلك أني لا أخاف بعد الله إلا التاريخ، ولا أستحيي من الأحياء، بل من أبي، أريد أن أكون نسخة عنه وألا أخيّب ظنه بي، ولا أصعب من أن تكون عند حسن ظن الأموات، ولذا أشقى بمحاسبة نفسي على كل موقف وكل قرار، فضميري أقسى عليّ من أعدائي.
بين هنا وهناك
بعد المسيرة الأدبية النسوية الحافلة، والتي كنتِ إحدى رائداتها، هل لا يزال مصطلح الأدب النوي صالحاً للاستخدام؟
- لعلكَ تعني أنني كنت أول فتاة أصدرت ديواناً باللغة العربية في الجزائر، ثمّ لاحقاً أول من أصدرت رواية باللغة العربية، لكن لا أظنني كنت رائدة ل «الأدب النسوي»، ولم أؤمن يوماً بهذا المصطلح، أراه تعبيراً عربياً يخص الكتابات النسائية بنية غير معلنة للاستخفاف بها، ففي الغرب مثلاً توجد حركات نسوية، لا أدب نسوي، وهو عامة مصطلح غير موضوعي، فلا يمكن اعتبار أعمال رضوى عاشور التاريخية مثلاً كتابات نسائية، كما أنّ كتابي «ذاكرة الجسد»، لو قرأته بعد أن تخلع غلافه لاعتقدت أن كاتبه رجل، وبالمنطق نفسه تكون روايات إحسان عبد القدوس ودواوين نزار قباني أدباً نسوياً، هذه «الشبهة» أُطلقت على أعمالي من طرف بعض الكتاب، لتهميش قلمي واسمي وحصري في الهاجس النسوي، تماماً كما اختُصر نزار في كونه «شاعر المرأة»، بينما نزار كما أنا، موضوع المرأة جزء من قضايانا التي على رأسها الحرية، ومصير الأمة العربية، ومحاربة الاستبداد، ولقد تفوّق نزار قباني في هذا المجال على كثير من شعراء جيله، وكان من أكثرهم شجاعة، وأعرف أيّ ثمن دفع بسبب مواقفه وكتاباته السياسية، لكن لا أحد يستشهد بكتاباته تلك، بل غالباً بأشعاره عن المرأة، شخصياً أقسّم الأدب إلى أدب جيّد وآخر سَيِّئ، وأدب خالد وآخر عابر، وهذا لا يتميّز به جنس دون آخر بل قلم دون غيره.
تُعتبرين أشهر كاتبة عربية، وتُعتبر كتبك من الأكثر مبيعاً في الوطن العربي، كيف تقرئين في عيون مُحبّيك ما أعطتك الشهرة؟
- ليس الكاتب من يأخذ قرار أن يكون مشهوراً، ويكتب كتاباً بهذه النيّة، شهرة الكاتب يصنعها القارئ، الكتاب الناجح هو الكتاب الذي يكاد أن ينسبه القارئ إلى نفسه، ذلك أن القارئ يذهب نحو الكاتب الذي يشبهه، ويشتري كتاباً بحثاً عن نفسه فيه، أحد أسرار نجاحي أنني أشبه قرائي في هواجسهم السياسية، وأحلامهم العاطفية، وأسرارهم الصغيرة، لذا تخليت باكراً عن لقبي الأكاديمي، دكتورة، كي لا أتوجّه إلى قارئي مدججة بالألقاب، وأتميّز عليه بشهاداتي، فقرائي يشعرون ببساطتي، ويقصدونني في المعارض بلهفة، ويلتقطون معي صوراً، لا لأنني نجمة، بل لأن لي قرابة بهم، هم يفعلون ذلك لا انبهاراً بل شوقاً لقريب افتقدوه، فنحن ننبهر ب«النجوم» أما الكاتب فعليه أن يظل كائناً أرضياً، لأن مادته الأولى في الكتابة هي النفس البشرية والحياة، قُرائي هم أهلي وقبيلة حبري، في معارض الكتاب يضمّونني ويبكون، لأن بيني وبينهم أسراراً لا أعرفها، وقصصاً لا علم لي بها، كنت طرفاً فيها، لعلّ أجمل ما في الكتابة أن تغدو الثالث في كل قصة حبّ.
علاقة
هل فكّرتِ يوماً في الكتابة باللغة الفرنسية أو بأية لغة أجنبية؟
-عشتُ في فرنسا 17 سنة، ودرست هناك، وأعددت أطروحتي بالفرنسية في السوربون على يد البروفيسور جاك بيرك، وهو أكبر مستشرق ومترجم للقرآن الكريم، وصدر لي قبل أربعة عقود كتاب أكاديمي باللغة الفرنسية، حول موضوع أطروحتي التي أنجزت في علم الاجتماع بمقدّمة منه، لكن علاقتي بالفرنسية لم تخترق وجداني الأدبي ككاتبة وروائية.
لماذا؟
- لأنني أرى الأشياء وأشعر بها «عربياً»، ولا أتصور نفسي أكتب كلمة «أحبك» مثلاً إلا باللغة العربية، كان بإمكاني انطلاقاً من ذلك الكتاب، أن أنتقد الرجل العربي، وأرجع أسباب ما يعانيه المجتمع العربي للإسلام، وأنخرط في لعبة النسوية، لكنني لا أريد أي مجد غير مجدِ أن أكون مقروءة لدى أبناء أمتي، فلا يمكن أن تكسب الغرب إلا بالتنازل عن قناعاتك، والتنكر لدينك، وتقديم بضاعة أدبية تلائم ما يطلبه القراء هناك، حتى «ذاكرة الجسد»، التي كتبتها أثناء إقامتي في فرنسا، أهديتها لمالك حداد، وهو الكاتب الذي فرض على نفسه بعد الاستقلال الصمت، لعجزه عن الكتابة بالعربية، فمات بسرطان صمته، ثمّ إنني بمواصلة كتابتي بالعربية أفي لأبي الذي كان مثقفاً وشاعراً بالفرنسية أيضاً، وكانت مأساته أنه كجيله حُرِم بسبب الاستعمار من تعلّم العربية، فتركها لي وصيّة.
أمنيات ورؤوس أقلام
تتحدث أحلام مستغاني عن أمنياتها ببساطتها وتلقائيتها المعهودة بالقول: أمنياتي هي أمنيات كل مواطن عربي اليوم، أنا قادمة من بيروت، ولا أدري كيف يمكن لكاتب عربي أن يجرؤ اليوم على الحديث عن نفسه، مُتخطياً أنهر الدم العربي التي تُراق متدفقة على أوراقه ومكتبه؟ وكيف يمكنه أن يحتفي بأي نجاح وأوطانٌ ينتمي إليها تقف على هذا الخراب والدمار؟ الحقيقة أنني لست على ما يرام، و«متعبة بعروبتي» كما قال نزار، أمّا أمنياتي ككاتبة فإنجاز مشاريع كتب أحملها منذ زمان، في ذاكرتي رؤوس أقلام ورؤوس أحلام.
0 تعليق