إعادة بناء النظام العالمي - ستاد العرب

0 تعليق 0 ارسل طباعة تبليغ حذف

شهدت الدول القومية في عصر العولمة المفرطة تحديات غير مسبوقة متعلقة بسيادتها وقدرتها على الحكم في ظل هيمنة التكنوقراطية والمركاتوقراطية. وفي خضم هذه التحولات الجذرية، يبرز السؤال المحوري: هل يمكن استعادة السيطرة وبناء نظام عالمي جديد يوازن بين المصالح الوطنية والتعاون الدولي؟
في كتابه الجديد «استعادة السيطرة؟ الدول ونظم الدولة بعد العولمة»، يقدم الاقتصادي والسياسي الألماني البارز وولفجانج ستريك تحليلاً عميقاً لأزمة النظام العالمي الذي تم تشكيله خلال حقبة العولمة المفرطة. 
يناقش الكتاب الذي ترجمه من الألمانية إلى الإنجليزية بن فوكس وجوشوا راتز التحولات الجذرية التي شهدها العالم خلال العقود الأخيرة، خاصة تلك المتعلقة بالصراع بين العولمة والديمقراطية، والتحديات التي تواجه الدول القومية في الحفاظ على سيادتها وقدرتها على الحكم.
يدعو المؤلف إلى التفكير العميق في مستقبل الدولة والنظام العالمي، ويتساءل: «هل يمكن للدول أن تستعيد سيادتها في ظل التحديات العالمية؟ وكيف يمكن تحقيق توازن بين التعاون الدولي واحترام السيادة الوطنية؟» هذه أسئلة محورية يثيرها الكتاب بغية فهم ديناميكيات السياسة والاقتصاد في عصر ما بعد العولمة.


جذور العولمة المفرطة
يتتبع ستريك جذور العولمة المفرطة، تلك الحقبة التي وُصفت بأنها «نهاية التاريخ»، حيث شهدت الرأسمالية توسعاً غير مسبوق، وأدت الثورة النيوليبرالية إلى مركزية السلطة على نطاق عالمي. في أوروبا، تم استبدال مفهوم الدولة القومية بنموذج الدولة الفوقية، المتمثل في الاتحاد الأوروبي، بينما تبنّت الولايات المتحدة نظاماً يُعرف ب «النظام العالمي الجديد» عقب انهيار الاتحاد السوفييتي. ومع ذلك، يوضح ستريك أن هذا النظام الجديد أثبت أنه غير قابل للحكم بوسائل ديمقراطية، حيث اعتمد بشكل كبير على «التكنوقراطية» (نظام حكم يعتمد على المعرفة والخبرة العلمية) و«المركاتوقراطية» (حكم السوق)، ما أدى إلى فقدان الاستقرار السياسي والشرعية الاجتماعية، وفشل في تحقيق السلام الدولي. كانت النتيجة سلسلة من الأزمات الاقتصادية والمؤسسية التي أشعلت شرارة حركات سياسية مضادة، أوقفت تصاعد سلطة الدولة العالمية ودفعت نحو استعادة السيادة الوطنية.
يستعرض الكتاب الصراع المستمر بين قوى العولمة التي تسعى إلى توحيد النظم السياسية والاقتصادية عالمياً، وقوى الديمقراطية التي تطالب باللامركزية وتمكين الحكم الوطني. يسلط ستريك الضوء على الكيفية التي تحولت بها هذه المعركة إلى قوة دافعة للتغيرات السياسية الكبرى، حيث تطالب الشعوب باستعادة السيطرة على مصيرها الجماعي.
يلهم ستريك قُرّاءه بتوجّهه نحو إعادة بناء نظرية الدولة في الاقتصاد السياسي، مستلهماً أفكار كارل بولانيي وجون ماينارد كينز، ويقترح نظاماً جديداً من الدول ذات السيادة يسمح بحكم ديمقراطي داخل كل دولة، مع تعزيز التعاون السلمي بين الدول. يشدد ستريك على أهمية التوازن بين الحفاظ على الاستقلال الوطني وبين بناء شراكات دولية قائمة على احترام السيادة.
يتناول الكتاب العديد من القضايا المحورية، من الفشل الديمقراطي للنظام العالمي الجديد، إلى الأزمات الاقتصادية والمؤسسية الناتجة عن العولمة المفرطة، وصولاً إلى دور الحركات المضادة للعولمة في استعادة السلطة الوطنية. يناقش أيضاً إمكانيات تحقيق حوكمة ديمقراطية في ظل نظام دولي جديد، متسائلاً عن إمكانية بناء مستقبل يعزز الديمقراطية والتعاون بين الدول بدلاً من فرض الهيمنة والسيطرة.
إمكانية إحياء الديمقراطية
يستكشف المؤلف شروط إمكانية، وإن لم تكن احتمالية كبيرة، إحياء الديمقراطية كوسيلة لمواجهة كل من الرأسمالية والحكم الاستبدادي، خاصة أنه يأتي في لحظة تاريخية تتفكك فيها العولمة النيوليبرالية لتفسح المجال لتشكيل اقتصادي-سياسي جديد وغير معروف حتى الآن. يعتمد المؤلف على الأدبيات المتعلقة بصعود النيوليبرالية وسقوطها، وتحول النظام العالمي للدولة من نظام أحادي القطب تحت الهيمنة الأمريكية إلى نظام متغير يتناول انحدار الديمقراطية الاجتماعية التمثيلية والأزمات الاقتصادية للرأسمالية في عصر العولمة المفرطة.
يحظى الكتاب باهتمام خاص بأوروبا الغربية والشرقية، كمنطقة تلعب دوراً محورياً في النظام العالمي. يُلقي الضوء على الاتحاد الأوروبي كمثال على التنظيم الدولي المرتبط بمؤسسات الحكم العالمي تحت رعاية غربية-أمريكية، ويقدّم رؤية تجمع بين نظرية الدولة والسياسات الاقتصادية للرأسمالية في سياق غير وظيفي وغير حتمي اقتصادياً، بل متجذر في السياقات التاريخية.
كما يناقش الكتاب العولمة كموضوع مركزي في العلاقة بين الرأسمالية والنظام العالمي النيوليبرالي. يتم تأريخ العولمة بوصفها ظاهرة تاريخية مستمرة، بدأت منذ عام 1492 عندما بدأ البشر لأول مرة في إعادة اكتشاف العالم عبر القارات. يوضح المؤلف أن هذا اللقاء بين الفروع البشرية المختلفة أدى إلى صعود أول إمبراطورية عالمية تحت حكم الإمبراطور تشارلز الخامس، ما أسهم في تشكيل النظام العالمي الحديث. يشدد المؤلف على الأهمية التاريخية للتحولات الجيوسياسية في إعادة تشكيل ديناميكيات القوى العالمية، ويقول: «مع تصاعد الإمبريالية والاستعمار، تزايدت السياسات الدولية الإقليمية بشكل مستمر، وصولاً إلى تحول آسيا إلى لاعب رئيسي بعد الحرب الروسية-اليابانية 1904-1905»، مضيفاً: «منذ الحرب العالمية الثانية، أصبحت الولايات المتحدة القوة المهيمنة عالمياً بعد خوضها حربين رئيسيتين، واحدة في الشرق والأخرى في الغرب، في ظل منافسة الاتحاد السوفييتي. كما أدى انهيار الاتحاد السوفييتي إلى عصر جديد من العولمة المفرطة التي وصفها المؤيدون بالتقدمية، بينما انتقدها المعارضون بوصفها أزمة للرأسمالية». يركز المؤلف على الاتجاهات المتزايدة نحو التراجع عن العولمة، كما تجلت في الأزمات المالية العالمية، وجائحة كوفيد-19، والحرب في أوكرانيا.
هيكلية الكتاب
ينقسم إلى أربعة أجزاء رئيسية. في الجزء الأول، يتناول الكاتب انهيار المركزية ويبدأ بمناقشة التخطيط السياسي الإقليمي والاقتصاد العالمي في ضوء العولمة والليبرالية الجديدة. يتناول فشل النظام العالمي الجديد في تحقيق الاستقرار، مع التركيز على الاتحاد الأوروبي كنموذج غير مكتمل. كما يلقي الضوء على الصراع المستمر بين العولمة والديمقراطية، مع تسليط الضوء على تأثير الثقافة والسياسة على النظم الاقتصادية والاجتماعية. أما الجزء الثاني فيركز على المرحلة التي تلت ثلاثة عقود من العولمة، ويحلل أزمتين مزدوجتين: الرأسمالية والديمقراطية. يدرس أزمة الرأسمالية من خلال مظاهر مثل الركود والديون والأزمات النيوليبرالية، بينما تتناول أزمة الديمقراطية التوتر بين العولمة والديمقراطية، مع تساؤلات حول إمكانية تحقيق ديمقراطية ما بعد العولمة.
وفي الجزء الثالث، يناقش الكاتب الدول والنظم السياسية، مستعرضاً عمليات التكامل والتمييز بين الدول، ومتناولاً قضايا الوحدة والتنوع في النظام الدولي، والتحديات التي تواجه الدول القومية. كما يركز على الاتحاد الأوروبي كنموذج يتحول من النيوليبرالية إلى الاندماج الجيوسياسي، مع الإشارة إلى تأثير الأحداث الجارية مثل أزمة أوكرانيا. ويقدّم الجزء الرابع رؤية جديدة تتجاوز المركزية العالمية، حيث يطرح قيود النظم المركزية والبدائل الممكنة، ويناقش أفكاراً حول الحكم العالمي والاقتصادات الوطنية، مع التركيز على إمكانية تقليص حجم الدول لتحقيق تنمية مستدامة وديمقراطية. كما يبرز دور الدول الصغيرة في مواجهة الأزمات الكبرى ودورها في التنمية البديلة. ينتهي الكتاب بخاتمة تقدم نظرة مستقبلية لبناء نظام عالمي جديد يوازن بين المصالح الوطنية والتعاون الدولي، ويعكس رؤية نقدية للنيوليبرالية والعولمة. يجمع الكتاب بين التحليل السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ويبحث عن نظم اقتصادية بديلة وحلول للتحديات التي تواجه الديمقراطية والدول القومية في العالم المعاصر.
 

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق