حادث الدهس المروّع الذي شهدته مدينة نيو أورليانز الأمريكية خلال احتفالها بعيد رأس السنة وراح ضحيته 15 شخصاً وجرح العشرات، كشف مجدداً أن الإرهاب لا يزال حياً يرزق ويتحرك، وأن الجهود العالمية التي تبذل للتصدي له ما زالت قاصرة عن استئصاله.
إن شمس الدين جبار، 42 عاماً، ابن المؤسسة العسكرية الأمريكية الذي خدم في الجيش مقاتلاً في أفغانستان، والذي نفذ الهجوم، كشفت التحقيقات أنه ينتمي إلى تنظيم «داعش»، من دون أن يشك أحد في انتمائه إلى هذا التنظيم، خصوصاً أنه حاصل على ميدالية الحرب على الإرهاب خلال خدمته، وتمكن من إخفاء هذا الانتماء، ما يعني أن الإرهاب قادر على التخفي والكمون في انتظار اللحظة المناسبة.
لقد تعمّد الجاني إحداث مذبحة عن سابق تصور وتصميم، رغم معرفته بأن الذين يستهدفهم هم من المدنيين، وهو أسلوب مارسه «داعش» في سوريا والعراق وغيرهما ضد المدارس والمستشفيات والأماكن العامة وراح ضحيته آلاف الأبرياء؛ لأن الفكر الإرهابي الذي يقوم على التطرف والتعصب لا يقيم وزناً لحياة الآخرين، ويستند إلى مفاهيم بهيمية تقوم على التكفير والتأثيم والتحريم والتجريم، بمعزل عن أي قيم إنسانية أو دينية أو قانونية.
لقد ابتليت منطقتنا منذ عام 2011 بما يسمى «الربيع العربي» بهذا الوباء الذي اسمه الإرهاب، وعانته الكثير من الدول العربية، ثم انتشر في العالم من خلال عمليات قتل عشوائي وتفجيرات في أماكن عامة، ثم تحول الإرهاب إلى ظاهرة عالمية من خلال «الإسلاموفوبيا» والأحزاب اليمينية المتطرفة الكارهة للمهاجرين والمسلمين.
لم يكن الإرهاب ليتمكن من هذا الانتشار لولا وجود بيئات حاضنة له، ودعم مادي من جهات رسمية وغير رسمية، ومؤسسات استخبارية لاستخدامه أداة للضغط على دول وشعوب وتغيير أنظمة.
إن ما حدث في نيو أورليانز في الولايات المتحدة، ومن قبل في مدينة ماغدبورغ الألمانية خلال الاحتفال بعيد الميلاد، وراح ضحيته خمسة أشخاص وأصيب أكثر من مئتين، وإن كانت الدوافع مختلفة إلا أن الجامع المشترك بين الحدثين هو التطرف والإرهاب، والأبرياء هم الضحايا.
إن التطرف قد يكون فكراً مسموماً، أو كلمة ملغومة، أو حزاماً ناسفاً، أو سيارة تستخدم للدهس، أو تفجيراً موقوتاً، وهو يمثل نموذجاً قائماً على مر العصور، إلا أن ما يقابله هو المشترك الإنساني القائم على التعاون والتسامح والمحبة والتنوع والتعددية الدينية والثقافية واللغوية وقبول الآخر، وهي أيضاً طبيعة بشرية مناهضة تماماً للتطرف والإرهاب.
إن نقيض التطرف ليس التطرف المضاد، ونقيض التعصب ليس التعصب المعاكس، إنما البديل هو تفكيك منظومة التعصب والتطرف وجذورهما الفكرية والاجتماعية والثقافية والسياسية والدينية، وهي معركة كل الشعوب من خلال الحوار والفكر والتواصل، من أجل خلق بيئة مناسبة لنشر قيم التسامح والعدالة والمساواة واللاعنف وقبول الآخر، والإقرار بالتنوع والتعددية.
لعل الولايات المتحدة تحديداً التي وقع العمل الإرهابي على أرضها، كما حدث في 11 سبتمبر، تعي الدرس جيداً بأن مواجهة الإرهاب تكون بالتخلي عن منطق القوة وازدواجية المعايير، والتزام القيم الإنسانية والمواثيق الدولية، وهي من أركان الأمن والسلم الدوليين اللذين يمثلان التصدي الفعلي للإرهاب على أرضها وأراضي الآخرين.
0 تعليق