التغيير والتهيئة - ستاد العرب

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

عبدالله السويجي
التغيير عملية شاقة ومعقّدة لا يتم بمجرد توفّر الفكرة أو الأيديولوجيا، ولا يحدث فجأة ولا بالإجبار ولا بشكل عشوائي، ولا يتم بمجرّد إيمان مفكّر أو مجموعة مثقفين بفكرة أو منظومة فكرية أو بنظام سياسي، التغيير لا يحدث بإنزال (براشوت) من السماء وكفى، إنه يتطلّب أناساً أو شعباً جاهزاً يتقبّل، أو لديه استعداد لتقبّل هذا الجديد، كالبذرة التي تحتاج إلى أرض صالحة، ومناخ مناسب للنّمو، ومن دون هذه الشروط لا تصبح شجرة.
تجارب كثيرة فشلت لأن أرضيتها/ شعبها، لم يكن مهيأً، ليس للتغيير، وإنما للفكر المحمول على التغيير، وأنصع مثال على ذلك، الدول التي أرادت أن تصبح ديمقراطية بعد حكم طويل، فشلت لأن التغيير لا يعني استبدال نظام بآخر، وإحلال مؤسسة مكان أخرى، لأن جوهر التغيير يحدث أساساً في العقلية وطريقة التفكير التي تنطلق من تقبّل الآخر، هي منظومة كاملة تشمل المجتمع بأسره، بشرائحه كافة، وأطيافه كافة، ولهذا يجب أن يتم تدريجياً من خلال التأسيس للفكرة التي يجب بالضرورة أن تكون متبوعة بالسلوك، حيث تبدأ علاماته بالظهور على الصغار، الذين سيحملون المنظومة والمنهج والسلوك، لهذا قد يستغرق الأمر سنوات طويلة، ولنقل جيلاً كاملاً أو أكثر، من هنا يقترح فلاسفة التغيير البدء بالنظام التعليمي، وتغيير المناهج التربوية وليس العلمية، تلك المتعلقة بالمبادئ ومنظومة القيم والأخلاق، لأن أي تغيير غير مصحوب بالأخلاق يكون عرضة للفشل.
ومن يتابع المناهج الدراسية والطرق التعليمية في الدول التي ارتضت الديمقراطية، على سبيل المثال، سيجد برامج خاصة يتم تنفيذها في المدارس، ابتداءً من مرحلة الحضانة وصولاً إلى المرحلة الثانوية، يعلمونهم مثلاً طريقة تداول الإدارة في الفصول، وتحمّل المسؤولية، والمحاسبة، والشفافية.
في المقابل، نرى الدول التي هبطت فيها الديمقراطية ب(البراشوت)، قد عانت من الفهم الحقيقي لمصطلح الديمقراطية، لأنها فهمته على أنه تعدّد الأحزاب، فوجدنا مئات الأحزاب ومعها عشرات الصحف والمجلات، ليبدأ حوار (عنيف)، لأنهم فهموا الديمقراطية على أنها حرية إبداء الرأي، ونسوا أسلوب وطريقة إبداء الرأي، واللغة التي يجب أن تُتّبع والتي يمكن تلخيصها (أستطيع أن افهم رأيك وأحترمه لكنني أختلف معك للأسباب التالية)، وهذا ما يجب أن يحدث في البرلمانات، لكنه لم يحدث، وقد شاهدنا مراراً عراكاً بالأيدي، وسمعنا لغة سوقية تتردد في أنحاء البرلمان، وتحوّل إلى ساحة للقتال والمنازلة. هؤلاء يتصرفون كذلك لأنهم لا يزالون يشعرون أن فلاناً يحميهم، بينما القانون هو الذي يحمي الجميع، والديمقراطية هي دولة القانون.
ومن الأفكار التي أسيء استخدامها عن طريق سوء فهم شروطها فكرة الاتحاد، الذي يستند في الأساس إلى توفّر عناصر جوهرية أهمها تكامل المصالح، وهذه يفرضها تكامل الجغرافيا أحياناً، واللغة أحياناً أخرى، والدين والعادات والتقاليد وأنظمة الحكم، ويكتسب الشرط الأخير أهمية كبيرة.
لهذا فشلت مشاريع اتحادات ونجحت أخرى، ولو نظرنا إلى الاتحاد الأوروبي سنجد تشابهاً في الأنظمة، إذ لا يصح الجمع بين نظام اشتراكي وآخر رأسمالي، ولا بين نظام علماني وآخر ديني متطرّف، ولا نظام ملكي وآخر جمهوري، ولكن يمكن الجمع بين الملكيات الدستورية والأنظمة الجمهورية، لهذا فشلت مشاريع الاتحادات في العالم العربي على الرغم من تقارب اللغة والجغرافيا، لكن الأنظمة لم تكن متقاربة.
ويمكننا ذكر تجربة ناجحة في الاتحاد، هي الأنجح منذ خمسين عاماً، وهي تجربة اتحاد الإمارات التي أصبحت دولة الإمارات العربية المتحدة، ويمكننا بسهولة ذكر عوامل النجاح: أولاً، تشابه أنظمة الحكم في كل إمارة، ثانياً، تشابه العادات والتقاليد، ثالثاً، القرب الجغرافي، رابعاً، وحدة المصالح، خامساً، وقد يكون الأهم، إذا ما عدنا لشروط التغيير، وهو أن جميع المواطنين في هذه البقع الجغرافية لديهم منبت واحد منذ آلاف السنين، وهنا يتحقّق شرط صفاء المرجعية، وانسجام الثقافة ووضوح الأصول، وسادساً، الإرادة القوية لبناء اتحاد متكامل، مع المحافظة على خصوصية كل إمارة، أي خصوصية كل كيان مجتمعي، الذي حقّق اندماجاً كبيراً مع مرور السنوات وتعاقب الأجيال ومردود الاتحاد المادي والمعنوي، وهنا يمكن القول إن التغيير جاء من داخل المجتمع وداخل الجغرافيا وداخل النسيج الثقافي المنسجم في الأساس، وبهذا تحول اتحاد دولة الإمارات إلى تجربة ناجحة جداً، وهناك من يقول إنه يمكن تعميمه، وأنا أقول إنه من الصعب فعل ذلك، لأن من الصعب توفير تلك الشروط، ولعل أصعبها (وحدة الحال والنسب)، وهو شرط مهم للغاية، اتّبعه رسولنا الأكرم ليعزّز التواصل والصلح والانسجام بين القبائل والعشائر.
التغيير ليس ضرورة وليس أمراً حتمياً، بينما التطوير هو الضرورة وهو الأمر الحتمي، لأنه ينشد تحسين ظروف المعيشة وتحقيق الرفاهية والأمن والأمان للإنسان، والمهم أن يتحقّق الانسجام بين الحاكم والشعب، وليس المهم شكل نظام الحكم، وأرى أن أروع تفسير للديمقراطية هو ما ذكره القائد المؤسس، المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيّب الله ثراه، حين قال بأن الديمقراطية هي توفير البيت والوظيفة والعلاج والتعليم والكرامة للإنسان، ومن دون هذه الأشياء لا توجد ديمقراطية. وقد صدق يرحمه الله.
[email protected]

أخبار ذات صلة

0 تعليق