يرى المراقبون، أن تطورات الأحداث في الشرق الأوسط، الناجمة عن تغيير النظام في سوريا، ستكون لها تداعيات كبرى على التوازنات في المنطقة، وستُؤثر أيضاً في الأجندات السياسية للقوى الإقليمية والدولية، ومن المنتظر أن يؤدي ذلك إلى تحوّلات جيوسياسية لافتة على مستوى دول البحر المتوسط الذي يشكّل تقاسم النفوذ في مياهه، أهمية قصوى بالنسبة للدول المطلة على ضفتيه، إضافة إلى القوى العظمى وعلى رأسها روسيا والولايات المتحدة الأمريكية.
ويشير الخبراء إلى أن البحر الأبيض المتوسط سيظل لعقود مقبلة، مسرحاً لتوترات كبرى، ولأزمات معقّدة، تعكس أهمية موقعه الاستراتيجي الذي يربط بين ثلاث قارات هي آسيا وأوروبا وإفريقيا، وسيظل شرق المتوسط، بؤرة التوتر الكبرى لأسباب تاريخية وجغرافية متشابكة، فهناك من جهة الصراع العربي الإسرائيلي الذي أخد أبعاداً مأساوية، نتيجة الإبادة التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني، وهناك تركيا التي تحاول استثمار سقوط النظام في دمشق، لتعزيز نفوذها في المنطقة ولمحاولة حسم الملف الكردي على المستويين الداخلي والإقليمي، وهناك من ناحية ثالثة الصراع التركي اليوناني المستمر منذ السبعينات من القرن الماضي، بسبب الخلاف السياسي في قبرص، والذي تصاعد على خلفية احتياطات الغاز الكبرى الموجودة في شرق المتوسط، ومن المحتمل أن يؤدي الصراع على الغاز أيضاً إلى نشوب مواجهة بين الدولة اللبنانية وإسرائيل، بسبب أطماع تل أبيب الهادفة إلى الاستحواذ على جزء من احتياطات الغاز اللبناني.
وعليه، فعلاوة على الأبعاد الحضارية والثقافية التي تبلورت عبر التاريخ على ضفتي المتوسط، وأثّرت بشكل كبير في باقي الجغرافيا العالمية، فإن دول أوروبا تنظر باهتمام بالغ إلى التأثير المتزايد للبحر المتوسط في أمنها القومي، وفي استقرار القارة العجوز برمتها، بسبب تحوّل الدول الفاشلة والهشة في إفريقيا إلى محطة لتهريب البشر والمخدرات نحو أوروبا، ومن ثمّ فإنه وبرغم الجهود الجبارة التي تبذلها دول مثل إيطاليا وفرنسا وإسبانيا من أجل السيطرة على قوافل الهجرة غير الشرعية، فإن قوارب تهريب البشر نحو الضفة الشمالية للمتوسط ما زالت مستمرة، بوتيرة دفعت دول الاتحاد الأوروبي إلى تنسيق جهودها، من أجل مواجهة تفاقم هذه الظاهرة التي باتت تؤثر في تماسك المجتمعات الأوروبية.
ويمكن القول، إن التحديات الأمنية لا تشكل سوى العنصر المتواضع في سلسلة الرهانات الجيوسياسية التي تستقطب اهتمام القوى العظمى، وبخاصة الغربية منها التي تنظر إلى الفضاء المتوسطي، بوصفه جزءاً من مجال نفوذها الحيوي، وتحاول بالتالي استثمار التحوّلات التي طرأت على المشهد السوري، من أجل دفع روسيا إلى إخلاء قاعدتيها العسكريتين في طرطوس وحميميم، وذلك ما يفسِّر اتهام موسكو للمخابرات البريطانية والأمريكية، بالوقوف وراء استهداف قواتها في سوريا من طرف مجموعة من المسلحين، الأمر الذي يُثبت أن نفوذ الغرب في شرق المتوسط أقوى بكثير من الضمانات التي قدّمتها أنقرة لموسكو، بشأن مستقبل قاعدتيها العسكريتين في سوريا.
وتذهب الكثير من التقارير الغربية إلى أن روسيا ما زالت متمسِّكة حتى الآن، بالمحافظة على وجودها العسكري في شرق المتوسط، وهي مستعدة للتعامل بكثير من البراغماتية مع النظام الجديد في سوريا، ويمكنها أن تقدّم له خدمات استراتيجية، دون إجباره على دفع أثمان سياسية، كما تفعل الدول الغربية التي دائماً ما يكون دعمها الاقتصادي والعسكري مرتبطاً بتطبيق أجندات مُكلِفة بالنسبة لمستقبل الدول. ويندرج التحرّك الروسي استجابة لبنود الوثيقة التي أصدرتها موسكو سنة 2015 والتي توضّح فيها العناصر الأساسية لسياستها الدفاعية، وتحدّد من خلالها استراتيجيتها البحرية، بهدف ضمان تطوير قدراتها والحفاظ على أمنها القومي.
ومن الواضح، أن البحر الأبيض المتوسط الذي يمثل منفذها نحو قواعدها في البحر الأسود، سيظل يُشكّل بؤرة اهتمامها الرئيسي، وذلك ما يدفعها إلى التفكير في إيجاد بدائل ممكنة لوجودها البحري في سوريا، ويمثل شرق ليبيا أبرز محطة تحاول من خلالها موسكو الحفاظ على حضورها في المياه الدافئة، بيد أن هذا الخيار يصطدم هو الآخر بالعديد من التحديات المرتبطة بالجغرافيا السياسية للمنطقة، فهناك مؤشرات تفيد بأن دول الجوار الليبي لا تنظر بعين الرضا للخطوة الروسية، لأن من شأنها أن تفاقم من حالة الاستقطاب بين قيادتي طرابلس وبنغازي.
أما التحدي الأكبر الذي يواجه مساعي روسيا للاقتراب من غرب المتوسط، فيرتبط بدرجة كبرى بالمصالح الجيوسياسية لإيطاليا وفرنسا، وبخاصة أن باريس حاولت منذ فترة حكم ساركوزي، أن تجعل من الفضاء المتوسطي أحد أهم عناصر أجندتها الجيوسياسية منذ إطلاق مبادرة «الاتحاد من أجل المتوسط»، ولعبت دوراً حاسماً في إسقاط نظام القذافي، ويصعب عليها الآن أن تقبل بسياسة الأمر الواقع التي يمكن أن تفرضها روسيا في ليبيا.
ومن المنتظر أن تكثف تحالفاتها في سياق حلف الناتو، من أجل إفشال مساعي روسيا الهادفة إلى الاستقرار في غرب المتوسط، لأن الوجود الروسي في المنطقة يضرّ بأمنها القومي، وبالتالي فإن بعض المحللين أشاروا إلى أن الاستخبارات الغربية ربما تكون مسؤولة عن حادث غرق السفينة الروسية في ليلة 23 ديسمبر/كانون الأول الماضي لإقناع موسكو بضرورة الابتعاد عن غرب المتوسط.
[email protected]
0 تعليق