كارتر.. والاتجاهات السياسية - ستاد العرب

0 تعليق 0 ارسل طباعة تبليغ حذف

هناك رجال يصنعهم التاريخ، بينما العظماء هم من يصنعون التاريخ، لذا تزخر كتب التاريخ برجال يصنعون أحداثه، وأبرز محطاته التي يتوقف عندها الدارسون والباحثون الذين يتلمسون الخطى لاكتشاف الدروس والعبر.
من هؤلاء الرجال الرئيس الأمريكي السابق جيمي كارتر، الذي يُعد الأطول عمراً في تاريخ الزعماء الأمريكيين، فقد ولد عام 24 من القرن الماضي، وفارق الحياة عن عمر يناهز 100 عام. وأقيمت له يوم الخميس الماضي جنازة رسمية في كاتدرائية واشنطن، في المبنى الذي دخله سيناتوراً عن ولاية جورجيا قبل أن يصل إلى البيت الأبيض، قبل أن يعود، وللمرة الأخيرة، إلى مدينته جورجيا ليُوارى في التراب. لكنه سيبقى في وجدان الأمريكيين، ومعظم دول العالم.
لا يعرف أقدار العظماء سوى العظماء، عندما قام كارتر بزيارة الإمارات في ضيافة الراحل الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، رحمه الله، لإلقاء إحدى محاضراته، وصف الشيخ زايد بأنه رجل عدل وسلام. وقد تعاون الزعيمان في المجالات الإنسانية العالمية بما يملكان من حكمة ومكانة أسهمت في إثراء التقارب والتواصل الإنساني بين جميع الأمم. فقد قام كارتر بمساعدة من الشيخ زايد، طيب الله ثراه، بمعالجة 4 ملايين حالة مرض الديدان المدورة في السودان والدول الإفريقية.
وقد أعرب صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، عن خالص تعازيه وصادق مواساته لعائلة الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر والشعب الأمريكي، حيث صرح سموه:«إن الفقيد الراحل قد ربطته علاقات وثيقة مع دولة الإمارات وقادتها، وقد عملنا معاً لعقود طويلة منذ عهد الشيخ زايد، رحمه الله، في شراكة إنسانية فاعلة لمواجهة الأمراض في العالم».
بدأ الرئيس الراحل كارتر نشاطه السياسي بانضمامه إلى الحزب الديمقراطي، ودعم حركة الحقوق المدنية وعارض التمييز العنصري ما زاد من شهرته في جورجيا، حيث تم انتخابه حاكماً لهذه الولاية عام 1970، وفاز بترشيح الحزب الديمقراطي لمنصب الرئاسة في عام 1976. وتمكن من الفوز على الرئيس جيرالد فورد.
كان كارتر يؤمن بسيادة القانون في الشؤون الدولية، ومبدأ تقرير المصير لجميع الشعوب، وقد وفّق إلى اختيار أشخاص أكفاء في إدارته، وعلى رأسهم أستاذ العلاقات الدولية في جامعة كولومبيا البولندي الأصل «زبيجنيو بريجنسكي» الذي عيّنه مستشاراً للأمن القومي، وسايروس فانس في منصب وزير الخارجية.
وقد ركز فانس في سياسته الخارجية على التفاوض مع الصين وروسيا بدلاً من النزاع، واهتم بشكل خاص في مجال الحد من التسلح. غير أن إدارة كارتر لم تمضِ بسلام، فقد ظهر تحدٍّ له في بنما عندما طالب قائد الحرس الوطني البنمي عمر توريخوس بإعادة قناة بنما إلى الدولة البنمية، وهي القناة التي شقتها الولايات المتحدة لربط المحيطين الأطلسي والهادئ ببعضهما لتسهيل حركة الملاحة البحرية بين جانبي قارة أمريكا، وأثناء الحرب العالمية الثانية، أثبتت القناة أهميتها للاستراتيجية العسكرية الأمريكية، حيث سمحت للسفن بالانتقال بسهولة بين المحيط الأطلسي والمحيط الهادئ. وقد خشيت إدارة الرئيس كارتر من تدخل الاتحاد السوفييتي السابق في بنما، فعقدت معاهدة «توريخوس-كارتر» تنص على نقل السيطرة الإقليمية على منطقة قناة بنما إلى بنما، وهي العملية التي اكتملت أخيراً في 31 ديسمبر (كانون الأول)1999. وقد هاجم الجمهوريون الرئيس كارتر، ووصفوه بالضعف لأنه «تنازل» عن قناة بنما، ولذلك يخطط الرئيس الجمهوري دونالد ترامب لإعادة هذه القناة إلى السيطرة الأمريكية.
وكان قيام الثورة الإيرانية عام 1989 نكسة أخرى وقعت فيها إدارة كارتر، واتخذ كارتر لمعاقبة إيران إجراءات فورية، حيث جمد مليارات الدولارات من الأصول الإيرانية في الولايات المتحدة، ولا تزال تلك الأموال مجمدة حتى اليوم. وتمكن من دفع المفاوضات بين مصر وإسرائيل وصولاً إلى عقد اتفاقية سلام برعايته في خريف عام 1978 وهي الاتفاقية التي لا تزال حتى اليوم تحكم العلاقة بين الدولتين.
وكان كارتر يريد تخفيف التوتر مع الاتحاد السوفييتي السابق، لكن جاء الغزو السوفييتي لأفغانستان عام 1980 ليدفع الرئيس كارتر إلى تغيير استراتيجيته، حيث اتجه بموجب نصائح مستشاره بريجنسكي لملاقاة ذلك الغزو بتنظيم مقاومة مسلحة ذات طابع إسلامي، وهي المقاومة التي نجحت عام 1989 في إخراج السوفييت من الأرض الأفغانية والسيطرة على الدولة، وقد حدث من جراء ذلك هجمات 11 سبتمبر التي آلمت الولايات المتحدة كثيراً.
أما بالنسبة إلى جمهورية الصين، التي لم تكن بحجمها وقوتها اليوم، فقد واصل كارتر سياسة الانفتاح عليها، ومنح النظام الشيوعي الاعتراف الدبلوماسي الرسمي في الأول من يناير(كانون الثاني) 1979. وقطع العلاقات الدبلوماسية وسحب الاعتراف بتايوان، المعروفة أيضاً باسم جمهورية الصين. وبعد خروجه من الرئاسة، أسس كارتر، مركز كارتر، عام 1982، بالشراكة مع جامعة «إيموري» بهدف تعزيز السلام والصحة في مختلف مناطق العالم. وفي عام 2002 حصل على جائزة نوبل للسلام.
إن العظماء إنما يرحلون بأجسادهم لكن أعمالهم وإنجازاتهم تبقى شاهدة على عظمتهم التي يخلدها التاريخ.
[email protected]

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق