العالم اليوم متخم بالأرقام، وكثرة الأعمال، وسهولة التنفيذ، وسرعة التكنولوجيا، والتجاوزات الفكرية، والأخلاقية، والاجتماعية، تحت مظلة اسمها «الفن». الأصل في الأشياء: الجمال، والرقي، والتفرد، والإبداع، والخيال، وقبل كل ذلك.. القصة.
في هذا العالم الممتلئ بالألقاب وكثرة المبالغين، يوجد من هو بحق إنسان فنان، امتزج دمه بالواقع، وخياله بالأرض، وحبه بالناس، وعمله بالتجربة، وصورته بالإنسانية البحتة التي تعكس جوهره، وما ينقل من فن ما هو إلا حقيقته، من دون زيف أو خداع أو تملّق وتباهٍ.
تتكرر القصص ويتأصّل المعنى، لم يشتهر أحدهم بفنه ولوحاته إلا لأن له قصته، له واقعه الذي تجرد منه عبر إبداعه، انتقل من خيال فردي إنساني، لعمل يتجذّر فيه بكل جوارحه وحواسه، ناقلاً إياها لتتجسد أمامه، ومن ثم بعد تفضله تخرج صورة حية للعالم ليرى فكراً، وقلباً، وروحاً، وفلسفة ذاتية من أصل الألم والمعاناة، ومن تجربة حب ووفاء وإخلاص أيضاً.
مازلت أذكر زيارتي لمدينة برشلونة عام 2014، وتلك التجربة التي اخترقت وجداني، حين زرت متحف الفنان العالمي «بيكاسو» ووقوفي أمام اللوحة التاريخية التي جعلته فناناً واسماً مهماً «امرأة تحتضر»، التزم فيها بواقعية شديدة وقصة عميقة مؤلمة حكت نظرة لأم وهي تحتضر ولحظات الوداع مع طفلها، إن الإنسانية في تلك اللوحة ترجمة لما في داخل الفنان الذي اختزل قصصاً كثيرة في كل تلك النظرات في الصورة. ولن يكون الفنان واقعياً وحقيقياً دونما قصة.
إن إرث الفنان ليس لوحاته في نظري، وليس عدد المعارض التي يقيمها أو يشارك فيها، وليس كل الحفلات التي تكرمه على عمل أو ابتكار، إنما إرثه هو «ذاته»، قصته التي وَلَّدت فيه الشرارة ليكون إنساناً مختلفاً في مشاعره وأحاسيسه، التقنيات قد تساعد الكثير لينتجوا أعمالاً، لكنها لن تخلق فيهم القصة والشعور، لن تجعلهم متخصصين في ترجمة الحب الذي في دواخلهم، وحتى القسوة الظالمة أحياناً. الإرث هو الإنسان الذي يعيش في الداخل، التجربة الكونية التي حولته من عالم الوحدة الخاص به لعوالم نفسية، واجتماعية واقتصادية وأفلاك يدور فيها ويحترق أحياناً بها ويموت آلاف المرات ليولد من جديد، وقد يحب ويذوي حباً ويموت ليولد من جديد.
الفنان قصة، قصة ماضيه وحاضره، وكيف ينقلنا إلى مستقبله اللحظي وما بعد الموت، فإن غوخ من يرى أعماله يستغرب من بعض القتامة والحزن التي فيها، لكنها حقيقية، هذه قصته، وقصته هي الإرث الذي خلّده، فقره وانزواؤه وبكاؤه جعلت منه بعد الرحيل معروفاً ومشهوراً، ومدرسة.
المقلدون اليوم كثر، لكن ليسوا خالدين، وليسوا في عداد المفكرين المبدعين أو الفنانين الإنسانيين ذوي الأحلام والتجربة التي حولتهم من مجرد أسماء إلى إرث، الإرث هو أنت في كل مجال تخلق فيه روحاً إنسانياً وإبداعية ذاتية، صادقة ومتواضعة.
[email protected]
0 تعليق