الهدنة بين النصر والهزيمة - ستاد العرب

0 تعليق 0 ارسل طباعة تبليغ حذف

لا شك أن أي جهد بُذل ويُبذل لوقف المجازر والدمار في غزة على مدى أكثر من عام يستحق الإشادة والتنويه بغض النظر عن أي موقف أو تفسير وتحليل. لكن لأننا منطقة يغلب عليها «التفكير العاطفي» حتى في الأزمات الكبرى فأتصور أنه من الضروري التعامل مع سيل الآراء والتعليقات على كل المستويات التي صاحبت إعلان «صفقة» الهدنة في قطاع غزة.
طبعاً يصعب استبعاد أن الفرحة بوقف القتل والقصف والتفجير أو بعودة الأسرى للحرية وإمكانية وصول الناس إلى مقومات الحياة الأساسية من مياه وغذاء وسقف يقيهم شر البرد تطغى على كل شيء. وبالتالي لا غرو من المبالغة لإشاعة الروح الإيجابية. لكن هذا شيء وما تقرأه وتسمعه من نخب المثقفين وأصحاب الرأي أمر آخر.
ربما كان الجدل داخل إسرائيل أقل عاطفية منه عن المحتوى الذي يطالعك باللغة العربية. فهناك من يرى أن اتفاق الهدنة وتبادل الأسرى «استسلام» للمقاومة الفلسطينية بتحقيق أحد مطالبها. ومع أن هذا التيار، الموصوف بالتطرف والعنصرية، ليس الأغلبية إلا أنّ صوته مسموع ومؤثر.
وهناك، في سياق المنافسة السياسية ضمن النخبة، من ينتقد الحكومة لأنها في النهاية قبلت بما كان مطروحاً قبل أكثر من نصف عام ما يعني أنه ليس هناك إنجاز رغم القتلى من الجانبين والدمار والمجازر بحق سكان غزة التي شوهت صورة الاحتلال عالمياً أكثر. وربما كان ذلك تياراً أوسع، لكنه ليس مؤثراً بسبب انتهازيته السياسية. وفي الأخير، هناك القيادة ومن حولها التي ترى في الاتفاق محض «هدنة» تحقق لها بعض مكاسب سياسية داخلية، أما الأهم فهو كسب تأييد ودعم الإدارة الأمريكية الجديدة للرئيس دونالد ترامب.
على الجانب الآخر، عندنا، نجد أن الشعب الفلسطيني في أغلبه ليس معنياً كثيراً بحديث النصر ولا الهزيمة. فسكان غزة الذين فقدوا عشرات الآلاف من الأهل والأحبة ودُمّرت بيوتهم وبلداتهم ومخيماتهم ومدنهم بالكامل وشُرّدوا في الخلاء بلا مأوى ولا غذاء، لا يهمهم سوى أنهم سيتمكنون من استعادة بعض الحياة على أرضهم، حتى لو كانوا نازحين في غير مواطنهم. تتراجع هنا لديهم شعارات انتصار المقاومة أو هزيمة الاحتلال، حتى رغم خطاب الشحن المعنوي وتحليلات البعض. وكذلك الفلسطينيون في الضفة الغربية، كل ما يأملونه أن يخفّ ضغط فكّي الكماشة عليهم – أي اعتداءات الاحتلال والمستوطنين.
هناك من يحاول أن يوازن ويبدو عقلانياً فيرى أنه لا نصر ولا هزيمة وإنما جولة من جولات الصراع يكسب فيها كل طرف شيئاً ويخسر غيره. لكن تلك الأصوات خافتة جداً ولا تظهر بوضوح في صخب نيران القصف أو احتفالات توقفه. طبيعي أن تسمع قادة المقاومة – بما أنها ما زالت باقية وأمكن إبرام اتفاق معها – يتحدثون عن نصر وعن هزيمة العدو لمجرد أنه «لم يحقق اهدافه». والمؤيدون للمقاومة يغالون في تصوير نصر على الاحتلال رغم التضحيات والخسائر التي مُني بها الشعب الفلسطيني ويعتبرونها «ثمناً غالياً للنصر».
لكن بالتفكير البارد، بعيداً عن شعارات التعبئة والتفكير العاطفي، فليس هناك نصر ولا هزيمة لأي طرف. وتحديداً لأنه لم تكن هناك «حرب» بالمعنى الدقيق.
فالحرب بتعريف قاموس أوكسفورد، هي «صراع عنيف بين جيشين أو قوتين مسلحتين بأسلحة توقع الموت والدمار في الطرف الآخر». وبالتالي لا يندرج تحت تعريف الحرب هدم المنازل على المواطنين العزل وقتل وجرح العشرات يومياً ولا تهجير البشر من مكان لمكان أو هدم المدارس والمستشفيات والمساجد والكنائس ولا تشريد الأطفال ولا الحرمان من الماء والدواء والطعام والوقود لأنها من الممنوعات حسب مقررات الأمم المتحدة. ومهما كانت فصائل المقاومة الفلسطينية، فهي ليست جيشاً، وليست هناك دولة فلسطينية أصلاً لتكون هناك حرب. أما القتل الجماعي بتعريف القاموس نفسه فهو «إبادة» – وهي جريمة ضد الإنسانية.
ما يجري إذاً هو عملية إبادة تقترب من «التطهير العرقي» من قبل جيش تجاه سكان، حتى لو كان بين السكان جماعات مسلحة تقاوم. لذا، فاتفاق وقف العمليات وتبادل الأسرى قد لا يعدو كونه مجرد «هدنة» كما سبق في اتفاقات أخرى مماثلة. حتى الرعاة الذين توسطوا ويضمنون الاتفاق، وهم الولايات المتحدة ومصر وقطر، يدركون ذلك. فالاتفاق رغم أن مرحلته الأخيرة تستهدف الوضع المستقبلي لقطاع غزة إلا أنه لا يتضمن الأساس الذي يراه أغلب العالم قاعدة تسوية دائمة: حل الدولتين.
مفهوم طبعاً أن هدف رعاة الاتفاق هو وقف نزف الدم ودمار الأرض والممتلكات، وهو هدف يستحق كل الجهد الذي بُذل ويُبذل. أما مسألة النصر والهزيمة فهي تكاد تكون «ترفاً فكرياً» أو مجرد شعارات حماسية على مواقع التواصل ومقاهي الدردشات الإعلامية والرقمية. يبقى الإنجاز الأهم الذي تحقق هو أن الفلسطينيين، أو من بقى منهم، ما زال على أرضه ولو حرقت. والأمل أن يتم البناء على ذلك من أجل حل دائم وتسوية تضمن حداً أدنى من حقوقهم.
[email protected]

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق