هل ترغب في مغامرة ثقافيّة مفعمة بالمفاجآت؟ لكن، ما رأيك في قائل يقول: إن الثقافة العربية وقعت في خديعة مشبوهة، مجهولة المصدر، حين طلّقت بالثلاث التصوف، من دون مبرّر؟
ما أثقل انصراف الذهن إلى أن العالم العربي، بحشود مثقفيه، لم يعرف العرفان حق قدره، فظل محجّماً مقزّماً بين شعوذات دراويش لا علاقة لهم بالمذاهب الصوفية السامية، وروائع أجناسها الأدبية من ملاحم وغزليّات، وبين تطرّف يرمي صفوة العرفاء بأنكر التهم.
طوال حقب الجفوة غير المؤصّلة، كان المستشرقون الأوروبيون يسهرون الليالي، عارجين إلى فضاءات العرفان العُلى. كم ستذكر وكم ستنسى؟ آسين بلاثيوس الإسباني الهائم بمحيي الدين بن عربي، البريطاني رينولد نيكولسون، أهمّ من حقّق وترجم «المثنوي المعنوي» لجلال الدين الرومي، لويس ماسينيون ودوره الرائد في إعادة اكتشاف منصور الحلاج... القائمة الكاملة تحتاج إلى شهرزاد وألف ليلة مناجاة.
ما يستدعي تصحيح الزلات الفكريّة، ليس أن التصوف مظلوم في الديار العربية، فما يحزّ في النفس هو أن المثقفين العرب كانوا أنفسَهم يظلمون. الاعتقاد أن دروب العرفان تفضي بالشعوب إلى التخلف وسدّ أبواب التنمية محض وهم. لك أن تحوّر بيت «لاميّة العجم» وتقول: «حبّ التصوّف يَثني همّ صاحبهِ.. عن المعالي ويُغري المرء بالكسلِ». كلا، فهل كانت القوى العظمى الأوروبية تبحث عن تخديرٍ صوفي لتطلعاتها التوسعيّة؟ لا شك في أن المستشرقين أدركوا الطاقات الروحية الكامنة في التصوف، فتهافتوا على التنقيب عنها في موارد ثرواتها الخفيّة عن أصحابها الذين {وكأيّن من آيةٍ في السماوات والأرض يمرّون عليها وهم عنها معرضون} «يوسف: 105».
كذلك كان الغربيون هم طلائع اكتشاف حقول المحروقات وذهبها الأسود. للقلم نظرية خاصّة في شأن العرفان، وهي أنه لا يوجد شعر في كل اللغات والثقافات والحضارات، هو أشدّ استنهاضاً للقوى والطاقات الكامنة في الذات الإنسانية من قمم الإبداع الأدبي الصوفي. خذ مثلاً هذه الغزلية العرفانية لحافظ الشيرازي، وإن لم يكن من أقطاب الصوفية الكبار، مثل ابن عربي والرومي، وقل لنا أبَعْدَ هذا إلى السكون ركون؟ يقول حافظ: «أيُّ سكاكر في هذه المدينة، حتى قنعتْ شُهْبُ بُزاة العرفان بمرتبة الذبابة... انشر جناحيك واصدح من على شجرة الطوبى.. حيفٌ أن يكون طائر مثلك أسيرَ قفص... رحلت القافلة، وأنت نائم، ودونك البيداء.. واهاً لك لم تسمع قرع أجراس شتّى».
لزوم ما يلزم: النتيجة الزراعيّة: قبل البذار الثقافي الجديد، يجب الحرث بتقليب التربة.
[email protected]
0 تعليق