في ولايته الثانية، يمضي الرئيس الأمريكي دونالد ترامنب، وبشكل متسارع، إلى هدم القديم في النظام الدولي، والانقلاب على سياسات سلفه جو بايدن، التي كانت تمثل نمطاً أمريكياً يقوم على التدرج والبنائية، اعتادت عليه واشنطن وعملت به في علاقاتها مع الحلفاء والخصوم على حدّ سواء، بينما يضع الرئيس ترامب الفاعلين الدوليين أمام خيارات صعبة، وهي خيارات تنطوي على شكل من أشكال المقامرة، كما في العل اقات بين واشنطن وحلفائها الغربيين، التي اعتبرت على الدوام مصدر قوة للطرفين، في مواجهة التحديات الكبرى، كما في مواجهتهما المشتركة للاتحاد السوفييتي السابق.
شعار أمريكا أولاً، وهو شعار الرئيس ترامب في حملتيه الانتخابيتين، في عامي 2015 و2024، تجلى عملياً وبسرعة كاملة في الضرائب والرسوم الجمركية التي فرضت على عدد كبير من السلع، التي تستوردها أمريكا من كندا والمكسيك والصين والاتحاد الأوروبي، خصوصاً الحديد والألمنيوم والسيارات والرقائق، لتعزيز المنتجات الأمريكية، وتشجيع الشركات العالمية على فتح مقرات ومعامل لها في الولايات المتحدة، لكن هذه الخطوة من ناحية المبدأ هي حرب تجارية معلنة ضد اقتصادات أساسية في سوق العمل الدولي، وضد المبادئ العولمية التي راحت تتكرّس منذ سقوط الاتحاد السوفييتي في عام 1991.
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، كانت أوروبا الغربية حليفاً للولايات المتحدة، ليس فقط من خلال حلف الأطلسي كمظلة مشتركة للدفاع والأمن، بل في تبني قيم سياسية مشتركة، تقوم على الليبرالية والديمقراطية، فهاتان القيمتان سمحتا لأمريكا وأوروبا باكتساب قيمة مضافة في صراعاتهما الدولية، وفي التمدد الثقافي والسلعي في الأسواق العالمية، وقد أعيد إنتاج هاتين القيمتين بما يتناسب مع ثورتي التقانة والاتصالات، واكتسبتا زخماً جديداً مع إتاحة الوصول الحر للمعلومات، والمشاركة في صناعة المحتوى على الشبكة العنكبوتية، وهو ما نشاهده اليوم في المكانة التي تلعبها البرمجيات ومواقع التواصل الاجتماعي والإعلام الرقمي.
يشعر الأوروبيون اليوم أن ترامب لا ينقلب فقط على حلفائه، لكنه أيضاً يقوم باتخاذ خطوات غير مسبوقة في النظام العولمي، من دون مراعاة مصالحهم ومخاوفهم، ففي سعيه لإنهاء الحرب الروسية الأوكرانية من دون إشراك فعلي لأوكرانيا وللأوروبيين، فهو يتجاوز منطق الأمن الجيوسياسي لأوروبا، ويمنح من وجهة نظرهم روسيا صك براءة من القفز على مبدأ سيادة الدول على أراضيها، بوصفه المبدأ المؤسس للأمم المتحدة، وهو يعني في نهاية المطاف تقديم جائزة لموسكو لتجاوزها هذا المبدأ الأممي، كما أن نهاية الحرب على طريقة دونالد ترامب، ستعني توجهاً أوروبياً شبه حتمي لبناء جدار أوكراني مع روسيا، أسوة بجدار برلين، أي استعادة الحرب الباردة.
يعوّل الرئيس ترامب في انقلابه على النظام العولمي على قدرة بلاده على فرض شروطها على الجميع، وعلى حاجة النظام الدولي للقدرات الاقتصادية والمالية والعسكرية للولايات المتحدة، وحمايتها لخطوط التجارة العالمية، ونظرياً يبدو هذا التعويل صحيحاً، لكن هذا التعويل يصطدم بوجود مستوى تشابك مركب ومعقد في النظام العولمي منذ بداية تسعينات القرن الماضي ولغاية اليوم، خصوصاً أن الشراكات في مختلف الميادين الاقتصادية والإنتاجية أصبحت في قسم كبير منها عابرة للحدود والجنسيات، وكانت الولايات المتحدة قد أسهمت عملياً في نشوء هذا النظام ما فوق القومي، وأرست دعائمه، واستفادت من إمكاناته، وقامت برعايته قانونياً.
الرسالة التي يوجهها ترامب اليوم تكمن في إمكانية الولايات المتحدة أن تكون مكتفية بذاتها، وإقامة أسوار حول نفسها، ابتداءً بجدار عازل، يمنع تدفق المهاجرين المكسيكيين إلى بلاده، أو أسوار من الضرائب الجمركية، لمنع وصول السلع والتكنولوجيا المنافسة إلى أسواق أمريكا، وبشكل مؤكد، سيتمكن الرئيس ترامب من حصد نتائج مالية لهذه السياسة على المدى القصير، لكن لا يمكن من الناحية العملية عزل الاقتصادات الكبرى عن بعضها من دون توقع نتائج مضادة ومعاكسة على المديين المتوسط والبعيد.
في أقل من شهرين من وصوله إلى سدة الحكم في البيت الأبيض، دفع الرئيس ترامب المناخ الدولي إلى حالة من عدم اليقين والغموض، لكنه سرع أيضاً في دفع الجميع إلى بناء سيناريوهات بديلة، في مقدمتها الاستعداد للأسوأ ومحاولة تجنبه، وطرح أسئلة عن البدائل المحتملة للأسواق الأمريكية، أو الخيارات الممكنة للاستقلالية الدفاعية والأمنية، أو حتى الاستثمار في الهجمة الترامبية، والعمل على إحداث استدارة في العلاقات، وتغيير التحالفات.
ليس مستبعداً في ظل هذه التحولات التي أحدثها الانقلاب الترامبي على العولمة، أن يعيد الأوروبيون التفكير بتسريع وتيرة العلاقات مع الصين في ضوء مبادرتها «الحزام والطريق»، هذه المبادرة التي تراجعت حظوظها في عهد الرئيس السابق جو بايدن، لكن اليوم تبدو بمثابة طوق نجاة متبادل بين الصين وأوروبا، فهما تتشاركان معاً التهديد الأمريكي، بغض النظر عن رؤية كلّ منهما للقيم التي ينبغي للعولمة أن تتبناها، لكن ما هو مؤكد أن العولمة تواجه أزمة كبيرة، قد تغيّر من دينامياتها، وقد تحمل أو تستعيد سلوكيات قديمة، في مقدمتها الحاجة إلى إشعال المزيد من الحروب حول العالم.
[email protected]
0 تعليق