الدبلوماسية البرلمانية في عالم معقّد - ستاد العرب

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

د.إدريس لكريني
ترتبط السياسة الخارجية للدول بمجموعة من السلوكيات والتحركات التي تباشرها الدول على المستوى الخارجي في إطار تحقيق مجموعة من الأهداف والمصالح، عبر عدد من القنوات التي يقودها رؤساء الدول ووزراء الخارجية والسفراء..
أضحت الدبلوماسية في عالم اليوم فناً وعلماً، فهي لا تحتاج بذلك إلى ضوابط قانونية فقط، بل إلى كفاءات تستوعب مجمل التحولات والمتغيرات الدولية أيضاً.
ظلت السياسة الخارجية مجالاً حيوياً بالنسبة للدول، يدبّر من خلال قنوات رسمية، غير أن تعدد الفاعلين الدوليين، وتعقد القضايا والملفات في عالم متغير ومتشابك، فرضا تدبيرها بنوع من التشارك والانفتاح، وهو ما سمح بظهور الدبلوماسية الموازية التي تقودها مختلف الفعاليات من أحزاب سياسية ومجتمع مدني وفاعلين اقتصاديين، ومراكز بحثية وجامعات وإعلام وجماعات محلية وبرلمانات..
فإلى جانب مهامها المتصلة بالتشريع وممارسة الرقابة على العمل الحكومي وسن السياسات العمومية، تحظى الهيئات التشريعية في مختلف النظم الدستورية بصلاحيات دبلوماسية، وهو ما أكدت عليه مختلف الدساتير عبر العالم، فالدستور الأمريكي يمنح صلاحيات مهمة في هذا الصدد ل«الكونغرس» إلى جانب الصلاحيات المحورية التي يستأثر بها رئيس الدولة في هذا الشأن.
يمكن للبرلمان باعتباره فاعلاً في رسم وتحديد السياسة العامة للدول، أن يؤثر في ملامح السياسة الخارجية الرسمية بموجب صلاحياته الدستورية، على مستوى المصادقة على الاتفاقيات الدولية، وممارسة الرقابة على النشاط الخارجي للحكومة.
عادة ما تتركز المهام الدبلوماسية للبرلمان في سن التشريعات ورسم السياسات التي تؤثر في الخيارات الخارجية للدول، بالإضافة إلى الانخراط في اتحادات برلمانية إقليمية ودولية، واستثمار حضورها في خدمة مختلف القضايا الوطنية بأبعادها السياسية والاقتصادية والثقافية.. كما يمكن لهذه المؤسسة أن تقود مبادرات وازنة، في سياق تدبير الصراعات والأزمات، عبر أساليب الوساطة والمساعي الحميدة، بالإضافة إلى المساهمة في جلب الاستثمارات الخارجية، وتوضيح ودعم المواقف الخارجية الرسمية للدولة إزاء عدد من القضايا الوطنية والدولية والإقليمية.
وكثيراً ما تشكل المؤسسات التشريعية منبراً لتداول عدد من القضايا الإقليمية والدولية أو الوطنية ذات البعد الخارجي، تفضي إلى طرح خلاصات وتوصيات وبيانات تقدم في مجملها أساساً يمكن أن يستند إليه الفاعل الرسمي في بلورة مواقف وسياسات دبلوماسية.
كما يمكن للنخب البرلمانية أن تباشر اتصالات خارجية، عبر القيام بزيارات ولقاءات مع وفود برلمانية أخرى في إطار دبلوماسية ثنائية، أو جماعية، تتم من خلال بعض الاتحادات البرلمانية الإقليمية والدولية كاتحاد البرلمانات العربية والإفريقية والبرلمانات الأورو- متوسطية والاتحاد البرلماني الدولي..»..
لا تخلو ممارسة الدبلوماسية البرلمانية من صعوبات وإشكالات متصلة في مجملها بعوامل ذاتية وأخرى موضوعية، فالأولى ترتبط بطبيعة النخب البرلمانية ومدى قدرتها على التفاوض وامتلاكها الكفاءة المطلوبة والمعلومات اللازمة للترافع بشأن عدد من القضايا الوطنية ذات البعد الخارجي.
أما الثانية فهي تتعلق بالهامش الدستوري المتاح لهذه المؤسسة سواء كانت عبارة عن غرفة واحدة أو ثنائية أو متعددة، والذي يتيح لها التحرك بقدر من الحرية والمرونة التي تسمح لها بتحقيق الأهداف المتوخاة، حيث تختلف النتائج والمكتسبات المحققة في هذا الخصوص تبعاً للصلاحيات المتاحة، ومدى تجاوب الفاعل الرسمي معها، ووعيه بأهميتها والتحرك في إطار من التشاركية والتنسيق.
إن كسب رهانات الدبلوماسية البرلمانية يقوم في جزء كبير منه على استحضار الكفاءة والإلمام بهذا المجال الحيوي والتقني الذي يتطلب التسلح بالمعرفة العلمية والتقنية، التي تكفل خوض غمار هذه التجربة بثقة في عالم متشابك ومعقد بقضاياه المختلفة.
وفي هذا السياق يمكن للمؤسسات التشريعية أن تسهر على تنظيم دورات تدريبية منتظمة يشرف عليها باحثون وخبراء في الشأن الدبلوماسي والاقتصادي، والعلاقات الدولية والقانون الدولي وإدارة النزاعات والأزمات.. بما يسهم في تطوير كفاءة النخب البرلمانية ويفضي إلى إرساء سلوكيات خارجية عقلانية وسليمة وبعيدة عن الحضور المرحلي وعن الشعارات الانفعالية والفضفاضة.. كما تتوقف فعالية هذه الدبلوماسية في توفير هامش قانوني ملائم يعزز مكانتها، ويتيح أيضاً الانفتاح على جهودها بصورة تدعم «دمقرطة» وعقلنة السياسة الخارجية للدول بشكل عام.
وبالنظر إلى أن الأحزاب السياسية تمثل مدارس على مستوى التنشئة الاجتماعية، ومؤسسات تساهم في تنوير وتأطير المواطنين وتوعيتهم بحقوقهم، ومشاتل لإعداد نخب سياسية في مستوى ما ينتظرها من مهام تمثيلية على المستويات المحلية والوطنية، فهي مطالبة بتزكية نخب كفؤة ومدربة بصورة تسمح لها بتولّي مسؤوليات ومهام دبلوماسية سواء من داخل الهيئة التشريعية أو غيرها.
إن الدينامية التي تشهدها العلاقات الدولية في الوقت الراهن، بتحولاتها الاقتصادية والرقمية، وتبدلاتها السياسية والعسكرية، تضع الدول أمام تحديات كبيرة تفرض اعتماد مقاربات تشاركية ومتطورة في بلورة سياستها الخارجية، بالصورة التي تسهم في تحقيق مكتسبات مستدامة، ونسج سلوكيات خارجية قوية ومبنية على أسس وطيدة.
إن تحويل القضايا العادلة والمقومات الطبيعية والاقتصادية والبشرية المتوافرة للدول إلى فرص حقيقية لتحقيق المكتسبات وكسب مختلف القضايا والمعارك الخارجية في أبعادها الاقتصادية والسياسية والاستراتيجية، تظل بحاجة إلى محام كفؤ وقوي، وإلى استيعاب تبدلات الواقع الدولي بتحدياته وفرصه أيضاً.
[email protected]

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق