د. إدريس لكريني
يحيل التحول الديمقراطي إلى تلك العملية السياسية المتدرجة التي تعني الحاكم والمحكوم، في إطار إرساء تعاقد اجتماعي جــــديد، ويتعلق الأمر أيضاً بالتحول الذي يطول السلطة السياسية على مستوى تجاوز مظاهر الشمولية والاستبداد، والسير نحو تأسيس وضــــع جديد تترسخ فــــيه دولة المؤسسات، وتتعـــزز فــــيه المشاركة السياسية، بعيداً عن الصراعات الدمـــوية والانقلابات، كما يرتبط كذلك بمختلف المداخل الرامـــية إلى دمقرطة الدولة والفرد والمجتمع، بما يجعل من الديمقراطية ممارسة يومية، وسبيلاً للتداول السلمي على السلطة.
إن التحول الديمقراطي هو عملية شاملة وشائكة، لا تتحقق بين عشية وضحاها، ورغم وجود مبادئ عالمية في هذا الصدد، فإن استحضار الخصوصيات المحلية في هذا الشأن، يعطي للتحول ثباتاً ودينامية أكبر.
ولا يوجد مدخل سحري وأحادي لتحقيق التحوّل، ذلك أن الأمر يتأثر سلباً وإيجاباً بمجموعة من الظروف والعوامل الداخلية والخارجية، وبطبيعة الثقافة السائدة داخل المجتمع، وما إذا كانت تدعم هذا التحوّل والتغيير أم ترفضهما.
ولذلك، تختلف سياقات التحوّل الديمقراطي بحسب البلدان والمناطق، ففي أقطار أوروبا الشرقية، كان لرحيل الاتحاد السوفييتي ونهاية الحرب الباردة أثر مباشر في اندلاع موجات التغيير والتحول، بحكم العوامل الإيديولوجية المشتركة والقرب الجغرافي؛ حيث تفاعلت مجمل دول أوروبا الشرقية التي كانت تسبح في «فلك موسكو» بصورة كبيرة مع ما جرى بمحيطها، منذ وصول الرئيس «ميخائيل غورباتشوف» رائد «البريسترويكا» إلى رأس قيادة الاتحاد السوفييتي السابق.
وفي أمريكا اللاتينية، كان للمعاناة التي كابدتها شعوب المنطقة من ظاهرة الانقلابات العسكرية، أثر كبير في إنضاج التحوّل، مع صعود التيارات الاشتراكية إلى الحكم، بما جعل الكثير من هذه الأقطار تحقق إنجازات مهمة على المستويين السياسي والاقتصادي. حيث أسهمت تجارب العدالة الانتقالية المعتمدة بهذه البلدان في توفير الأجواء النفسية والسياسية لإرساء تجارب ديمقراطية واعدة.
وفي إفريقيا، التي عانت ويلات الاستعمار والتبعية والصعوبات الاقتصادية والاجتماعية لعقود، عرف التحوّل في كثير من الأقطار منذ بداية التسعينات شكلاً عنيفاً بفعل تعقد الأوضاع السياسية والاجتماعية؛ فيما برزت تجارب ديمقراطية مهمة، كما هو الشأن بالنسبة لجنوب إفريقيا ورواندا، وفي المقابل ما زال الصراع الدامي على السلطة والهشاشة الاجتماعية يخيمان على بعض، كما هو الأمر في عدد من دول الساحل والصحراء.
تنطوي تجارب التحول الديمقراطي على خصوصيات يفرضها المحيط الداخلي بكل مكوناته السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية، وعلى الرغم من أهمية استحضار هذه التجارب بدروسها المهمة على المستوى العربي، فإن ذلك لا يعني استيرادها وتطبيقها بشكل عشوائي.
فإذا كانت دول أوروبا الشرقية وأمريكا اللاتينية وعدد من الدول الإفريقية والآسيوية، قد انخرطت في إعمال مبادرات إصلاحية بشكل جدّي، ودبرت المراحل الانتقالية بقدر من الكفاءة والعقلانية واجتازتها بنجاح، فإن مجمل التدابير اعتمدتها العديد من الأقطار العربية منذ بدايات التسعينات أو في أعقاب الحراك الذي شهدته المنطقة قبل أكثر من عقد من الزمن، بدت بطيئة وغير شاملة، ولم تعكس في العمق تطلعات الشعوب، وظهرت وكأنها تستهدف تحسين صور وسمعة هذه الدول في الخارج.
ثمة سؤال يطرح بحدة في سياق الحديث عن قضايا الديمقراطية في المنطقة العربية؛ وهو: لماذا فشل العرب في ما نجحت فيه الكثير من الدول على امتداد مناطق مختلفة من العالم، على مستوى كسب رهانات التحول الديمقراطي؛ حيث تحولت الكثير من الفرص، كما هو الشأن بسنوات ما بعد نهاية الحرب الباردة، وتحولات ما سمي بـ«الربيع العربي» إلى إحباطات حقيقية؟
إن كسب رهانات التحول الديمقراطي ليس صدفة، بقدر ما هو نتاج عمل دؤوب يرتبط أساساً باعتماد حِكَامة أمنية توازن بين فرض النظام واحترام الحقوق والحريات، وإعمال إصلاحات اقتصادية تدعم سلاسة التحول السياسي وتقوّي شعبيته، واعتماد التعددية السياسية والحزبية، وتبني التناوب والتداول السلمي على السلطة، وضمان بطاقة العودة للقوى المعارضة في إطار قواعد لعبة واضحة ومؤطرة ومتفق عليها، علاوة على إحداث آليات وهيئات لتدبير الأزمات والصراعات المتراكمة (العدالة الانتقالية)، وبناء المؤسسات، وزرع الثقة بين مختلف الفرقاء والتيارات السياسية، وتجاوز أخطاء واختلالات النظم الاستبدادية.
كما يظل الأمر رهناً بالمسافة التي تأخذها المؤسسة العسكرية من الفرقاء السياسيين، وبطبيعة الضمانات الدستورية الموضوعة، وبمدى شفافية ونزاهة الانتخابات المعتمدة. ويعد استحضار التجارب الديمقراطية الدولية الرائدة، أمراً حيوياً بالنظر إلى كونها توفر دروساً وعبراً تسمح بالاستفادة منها ميدانياً بأقل كلفة.
إن المسارات «الديمقراطية» المتعثرة في عدد من البلدان، تعود في جزء كبير منها إلى عدم التوافق بشأن القضايا الخلافية الكبرى، وإهمال المشترك بين مختلف الفصائل والأحزاب المتصارعة، وضعف فعاليات المجتمع المدني أو غيابها، وعدم وجود بيئة اجتماعية داخلية حاضنة للتحول، وعدم استئثار مختلف القنوات المعنية بالتنشئة الاجتماعية بمهامها في ترسيخ ثقافة الديمقراطية واحترام التعددية السياسية والفكرية.
وتنضاف إلى ذلك الإشكالات الثقافية والسياسية التي يطرحها الفصل بين الدين والدولة في المنطقة، زيادة على الضعف الذي يميز أداء المعارضة السياسية، إضافة إلى العامل الإقليمي والدولي الذي كثيراً ما لعب أدواراً سلبية ومربكة في هذا الخصوص.
[email protected]
0 تعليق