قبل مغادرة إدارة الرئيس الأمريكي الديمقراطي جو بايدن للبيت الأبيض بعشرة أيام أعلنت بالاشتراك مع حكومة العمال البريطانية الجديدة حزمة عقوبات على قطاع النفط الروسي تستهدف أكبر شركتي نفط وناقلات النفط التي تتفادى بها موسكو حزم العقوبات المتكررة على صادراتها من الطاقة. وعلى الفور ارتفعت أسعار النفط إلى مستوى لم تشهده منذ شهر أكتوبر(تشرين الأول) نتيجة مخاوف السوق من تضرر صادرات روسيا التي تنتج نحو عشرة في المئة من احتياجات العالم النفطية.
يلاحظ طبعاً أن إدارة بايدن سارعت في أيامها الأخيرة بالسلطة إلى اتخاذ إجراءات تستبق بها الإدارة الجديدة القادمة للرئيس الجمهوري دونالد ترامب على طريقة «فرض الأمر الواقع» التي يتبعها الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين. لكن قرار العقوبات الجديدة على نفط روسيا كان أكثر من ذلك، وليس فقط ضربة مزدوجة بل متعددة التأثير.
فالعقوبات الأمريكية/البريطانية الجديدة تستهدف بالأساس أكبر شركتي نفط وعشرات الناقلات وشركات التأمين على السفن في روسيا التي تصدر نحو مليون برميل يومياً للهند والصين. ومعروف أن البلدين أصبحا وجهة تصدير مهمة لروسيا بعد حظر أوروبا استيراد الطاقة من موسكو عقب اندلاع الحرب الأوكرانية.
بالنسبة لبريطانيا وحكومة رئيس الوزراء كيير ستارمر، هناك هدف مزدوج أيضاً من مشاركة أمريكا ما اعتبره الإعلام البريطاني «قيادة حملة عالمية على أسطول الظل من ناقلات النفط الروسي للالتفاف على العقوبات». طبعاً في ذلك مبالغة كبيرة، ففي أي عمل مشترك بين أمريكا وغيرها – حتى لو كانت بريطانيا – تكون القيادة لواشنطن طبعاً. وفيما يتعلق بحرب أوكرانيا منذ أكثر من عامين لا يتصرف داعمو كييف في الغرب إلا تحت مظلة القيادة الأمريكية.
لكن على الأقل، هرب ستارمر من مشاكله الداخلية المتفاقمة خلال أقل من ستة أشهر في الحكم بتضخيم موقف سياسة خارجية يصرف الانتباه عن الوضع الداخلي ولو قليلاً. وهناك أيضاً رغبة حكومة العمال في «فتح قناة تعامل» مع إدارة ترامب الجديدة، خاصة في ظل الحملة التي يشنها إيلون ماسك حليف ترامب على ستارمر وحكومته.
إنما التأثير الأهم يظل هو ما استهدفته إدارة بايدن بضربة العقوبات المزدوجة الجديدة. فهي مزدوجة لأنها لا تستهدف حرمان روسيا من بضع مليارات الدولارات فحسب. بل إنها أيضاً تستهدف الصين التي تستورد أغلب هذا النفط، كما أنه قد يدفع المصافي الهندية للتحول إلى استيراد النفط من أمريكا وغرب إفريقيا بدلاً من النفط الروسي الذي تعتمد عليه. وإن كان الاحتمال الأخير مستبعد على الأقل في المدى القريب لأن إغلب تلك المصافي مصمم للعمل على الخام الروسي ويكون التحول إلى خامات أخرى مختلفة أمراً صعباً تقنياً.
في النهاية، ومثل بقية القرارات التي تتخذها إدارة بايدن في لحظاتها الأخيرة في البيت الأبيض، يبقى الغرض الأساسي هو استمرار سياستها في دعم أوكرانيا والتصدي لروسيا – أي إبقاء الصراع. ذلك على عكس إدارة بايدن القادمة التي تستهدف إنهاء الصراع بتسوية لأزمة أوكرانيا عبر تفاهم مباشر بين ترامب والرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وبالطبع لن تقوم إدارة ترامب بإلغاء أية عقوبات على روسيا إلا في إطار صفقة، وإن كانت قد تقلل أو توقف الدعم الأمريكي المباشر لأوكرانيا.
لكن هذا الهدف لإدارة بايدن ربما يكون سلاحاً ذا حدين أيضاً، إذ إن العقوبات الجديدة على صادرات الطاقة الروسية تعطي إدارة ترامب القادمة ورقة ضغط إضافية في المفاوضات مع روسيا لإنهاء الحرب. فالمعروف أنه رغم حجم وأهمية الإنتاج الروسي من الغاز إلا أن القدر الأكبر من دخل موسكو من صادرات الطاقة يأتي من تصدير النفط.
بالطبع لا يمكن استبعاد تأثير جانبي لا يقل أهمية، ويتعلق بالداخل الأمريكي أكثر منه بحرب أوكرانيا والتصدي لروسيا والصين. ذلك أن الإجراء الأمريكي /البريطاني الأخير يعد تغييراً في استراتيجية العقوبات على قطاع الطاقة الروسي التي اتبعتها إدارة بايدن في العامين الأخيرين.
ففي كل حُزم العقوبات السابقة راعت إدارة بايدن ألا تؤدي محاولات حرمان موسكو من عائدات صادرات الطاقة إلى صدمة أسعار في السوق ترفع أسعار الوقود في محطات البنزين الأمريكية وتزيد الضغوط التضخمية وتثير غضب المواطن الأمريكي. لذا نجد أن شركات طاقة روسية كبرى مثل «روزنفت» وغيرها تفادت التعرض للعقوبات الأمريكية والغربية، حتى غازبروم إلى ما قبل العقوبات الأخيرة.
لكن هذه المرة، وكأن إدارة بايدن وهي خارجة من السلطة لم يعد يهمها ذلك، بل ربما حتى أصابت هدفاً آخر بتعقيد حكم ترامب في بدايته. فارتفاع أسعار النفط نتيجة الإعلان عن تلك العقوبات سيؤدي إذا استمر إلى ارتفاع أسعار البنزين في أمريكا ويمثل تحدياً لترامب وإدارته في أيامها الأولى.
ربما لا تؤثر العقوبات الأخيرة كثيراً في قدرة روسيا على تفادي ضررها الشديد، إذ إن موسكو تتحسب لكل ذلك منذ فترة وتجد طريقاً للالتفاف على العقوبات بشكل أو بآخر بما يقلل من التأثير السلبي بدرجة أو بأخرى. لكنها تظل خطوة متجاوزة لمعاقبة روسيا ودعم أوكرانيا بآثارها الداخلية في أمريكا وبريطانيا.
[email protected]
0 تعليق