هل من شرق أوسط جديد؟ - ستاد العرب

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

حسام ميرو
بعد توقيع اتفاق أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل في سبتمبر/ أيلول 1993، ظهرت معطيات جديدة أفسحت في المجال لظهور تصوّرات لمشروع استراتيجي للمنطقة، انطلاقاً من فرضية إمكانية تعميم مسار السلام بين العرب وإسرائيل، وقد أصدر شمعون بيريز، الذي شغل منصب رئيس الوزراء لفترتين، ورئاسة الدولة بين عامي 2007 و2014، كتابه «الشرق الأوسط الجديد» في عام 1996، أي بعد ثلاث سنوات من توقيع «اتفاق أوسلو»، طارحاً رؤيته لما يمكن أن يكون عليه واقع حال الشرق الأوسط إذا أقام العرب سلاماً دائماً مع إسرائيل، في مقارنة ومقاربة مع واقع تحوّل أوروبا إلى منظومة اقتصادية تبادلية وتنافسية، من خلال مشروع الاتحاد الأوروبي.
مقاربة شمعون بيريز التفاؤلية والرغبوية في آن، وبغض النظر عن مطابقتها أو عدم مطابقتها للديناميات التاريخية في المنطقة، تأسّست على فرضية مفادها أن الدور الأمريكي، بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، يمكن أن يسهم في إحداث تحوّلات جذرية في المنطقة، وهو بالفعل ما حدث، لكن باتجاه معاكس تماماً، بدأ مع الطريقة التي أسقطت فيها واشنطن النظام العراقي في عام 2003، إذ إنه بدلاً من إبقاء مؤسسات الدولة العراقية موجودة، باعتبارها مؤسسات لعموم العراقيين، والإسهام في بناء نظام سياسي ديمقراطي مواطني، كما كانت تروّج واشنطن، قامت بتهديم الدولة العراقية ومؤسساتها، وإحلال نظام محاصصة طائفي، لا صلة له بمفهوم الدولة الحديثة، المحايدة تجاه مكوناتها الدينية والمذهبية.
بالمعنى الأكثر دقّة، كان مشروع دمقرطة نظام الحكم في العراق الوصفة المثالية لقيام نظام سياسي غير ديمقراطي، في دولة تنافس مؤسساتها الرسمية مؤسسات فصائلية طائفية، أصبحت تمتلك إمكانية الوصول إلى موارد الدولة نفسها، ولها قرارات مستقلة عن الجهاز التنفيذي للدولة، الممثل في الحكومة، ورئيس الوزراء، ولها علاقات خارجية تخدم مصالحها، بشكل مستقل، وأحياناً معاكس لفلسفة وسياسة الجهاز التنفيذي للعلاقات الخارجية للعراق، وبهذا فإن النسخة العراقية التي كان بالإمكان جعلها قوة في المنطقة تحوّلت إلى نقيضها التام، مع استعادة الهويات ما دون الوطنية، وجعلها ساحة ومادة للتنافس المصلحي والسياسي.
في عام 2006، أثناء الحرب الإسرائيلية على لبنان، اعتبرت كونداليزا رايس، وزيرة الخارجية الأمريكية آنذاك، أن «آلام هذه الحرب هي الولادة القاسية للشرق الأوسط الجديد»، وتُمثّل وجهة نظر رايس تياراً معتبراً في المؤسسات الأمريكية، وخصوصاً في وزارة الخارجية، يعتقد أن تفكيك الشرق الأوسط القديم غير ممكن إلا من خلال سلسلة من الحروب والفوضى، التي من شأنها أن تزيل المعادلات القائمة، والتي تنتمي إلى موازين القوى خلال الحرب الباردة، لكنها لا تزال موجودة، وتعوق عملية إعادة هيكلة المنطقة.
من الناحية الشكلية، تبدو وجهة النظر هذه متماسكة، قياساً إلى نهاية مفاعيل حقبة ما، وضرورة ولادة حقبة جديدة تعكس موازين قوى دولية، تلعب فيها الولايات المتحدة الدور الأبرز، لكن من الناحية العملية، لم تأخذ هذه الرؤية بشكل وازن تضارب المصالح بين الدول الإقليمية، أو حتى احتمالات تغيّر أولويات المصالح الاستراتيجية الكبرى للولايات المتحدة نفسها، وهو ما حصل فعلياً، مع إدارة الرئيس باراك أوباما، الذي أحدث توجهاً جديداً في أولويات واشنطن، بحيث أصبحت الصين هي المنافس والخصم الأول، الذي يستوجب توجيه معظم الجهود العسكرية والسياسية والاقتصادية والتكنولوجية لمواجهته.
في الوقت الذي بدأت فيه واشنطن انكفاءها التدريجي عن الشرق الأوسط، صعد دور كلّ من تركيا وإيران، لملء الفراغ الذي بدأ ينشأ مع حالة الانكفاء الأمريكي، وقد لعبت الدولتان أدواراً عديدة في أحداث المنطقة بعد عام 2011، وزادتا من نفوذهما في البلاد التي حدثت فيها اضطرابات وحروب أهلية، وقد استثمرتا في الهويات القومية وما دون الوطنية، لبناء شبكات من الولاء والمصالح مع جماعات وقوى أهلية، على حساب الدولة الوطنية في عدد من الدول، التي راحت تتفتّت وتتحوّل إلى جغرافيا تعمّها فوضى السلاح وتعدّد الولاءات.
مجريات الأحداث بعد «طوفان الأقصى»، أعادت إلى الواجهة الحديث عن شرق أوسط جديد، لكن هذه المرّة، من خلال تصوّر مختلف، يقوم على ترتيب المشرق العربي بشكل خاص، بوصفه جزءاً من منظومة الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط، على أساس دول طائفية ضعيفة، لا تمثل تهديداً لجيرانها، وتحديداً لإسرائيل، لكن هذه الصيغة لا تشكل فقط تراجعاً عن مفهوم الشرق الأوسط الجديد المزدهر، على غرار الاتحاد الأوروبي، الذي حاول بيريز التبشير به، بل تمثل وصفة لمزيد من التداعي في عموم الشرق الأوسط كلّه، وانتكاسة تاريخية عن سياق الدولة الوطنية.
إن نشوء شرق أوسط جديد، أي منظومة أمن واستقرار جديدة، تحمي مصالح وأمن جميع الدول، وتزيد من احتمالات وفرص الازدهار الاقتصادي والمعيشي، له شروط موضوعية، أكّدت وقائع العقود الثلاثة الماضية أنه لا يمكن تجاوزها، وفي مقدّمتها إيجاد حلّ منصف للقضية الفلسطينية، والإسهام الجدي في بناء الدولة الوطنية الحديثة المناقضة شكلاً ومضموناً لأنظمة الاستبداد ومنها البنى الطائفية وخطاباتها الإقصائية والاستقطابية، واحترام مبدأ سيادة الدول «مبدأ وستفاليا»، ووقف الهدر المالي على الحروب لمصلحة بناء أوضاع تنموية لمصلحة شعوب المنطقة.
[email protected]

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق