يبدو التفاؤل بفوز امرأة سمراء للمرة الأولى بزعامة حزب كبير في بريطانيا مبالغاً فيه إلى حد كبير. من الطبيعي، من باب «الصوابية السياسية» المفتعلة إلى حدٍّ ما، أن يمتدح زعيم حزب العمال الحاكم كيير ستارمر فوز كيمي بادنوك بزعامة حزب المحافظين المعارض –الذي كان يحكم بريطانيا حتى قبل ثلاثة أشهر- فذلك إجراء، فضلاً عن أنه يعتبر مجرد تصرف رسمي تقليدي فإنه يتّسق مع حالة امتداح الذات الكاسحة بين النخبة السياسية وفي الإعلام البريطاني كردّ فعل على انتخاب حزب كبير امرأة من أصول إفريقية.
مع ذلك، لا يبدو أن النائبة البرلمانية العمالية دون بتلر أخطأت تماماً حين شاركت على حسابها في مواقع التواصل منشوراً يصف انتخاب بادنوك بأنه «عنصرية بيضاء بوجه أسمر». ورغم انتقاد النائبة لأنها تجاوزت الصوابية السياسية، فإن الكاتب اللندني نلز آبي صاحب المنشور الأصلي لم يكذب تماماً حين وصف الأمر بأنه اختيار المحافظين للتفوق العنصري الأبيض، وأنه «انتصار للعنصرية».
يمكن ببساطة استنتاج ذلك من احتفاء التيار اليميني المتطرف في حزب المحافظين بفوز بادنوك، رغم أن منافسها في الجولة النهائية روبرت جنريك هو أيضاً من جناح أقصى اليمين في الحزب، لكن الواضح أن قواعد الناخبين رأوا كيمي بادنوك أكثر تطرفاً نحو اليمين منه؛ لذا لا يستغرب المرء أن تهلل منافذ إعلامية قريبة من اليمين المتطرف العنصري، مثل قناة «جي بي نيوز»، لفوزها بزعامة الحزب.
لا يقتصر التفاؤل الخادع على بريطانيا ونخبتها، وإنما ستجد كثيرين في الخارج خاصة في منطقتنا يعتبرون ذلك دليلاً قوياً على «شفافية» الديمقراطية البريطانية الراسخة. إنما الحقيقة أن ذلك لا علاقة له بالواقع لاعتبارات عديدة.
أولها، أن البريطانيين المجنسين –مثل أغلب المجنسين في أي بلد– يكونون «ملكيين أكثر من الملك»، بمعنى أنهم أكثر حرصاً على إعلاء مصالح النخبة الثرية المسيطرة على حساب مصالح الطبقات العاملة، خاصة لو كانوا من الملوّنين والمجنسين. صحيح أن كيمي ولدت في لندن، لكنها قضت طفولتها وشبابها في لاغوس عاصمة بلدها الأصلي نيجيريا حيث عمل والداها؛ لذا حين انتخبت للبرلمان لأول مرة قبل اثني عشر عاماً قالت في خطابها الرسمي، إنها تعتبر نفسها «مهاجرة من الجيل الأول»؛ لأنها عادت إلى لندن وهي في سن السادسة عشرة.
تشير التجارب القريبة إلى أن أمثالها يكونون أشد على أبناء جلدتهم الأصليين أولاً؛ كي يظهروا ولاءً أكثر من المطلوب للنخبة الجديدة التي يتطلعون لإرضائها، وثانياً خشية أن يتهمّوا بأنهم يميلون إلى من هم من أصول مشتركة معهم. وهذا ما يجعلهم يحاولون دوماً أن يكونوا كما يقول المثل «كاثوليكيين أكثر من بابا روما». وعلى ذكر المثل الأخير، تقول بادنوك إنها رغم كونها غير متدينة فإنها تلتزم بالقيم المسيحية. لكن الواقع أنها لا تعترف بأي قيود أو معايير، وتتمتع بانتهازية سياسية هائلة. ففي بداية دخولها العمل العام، وكانت وقتها تعمل في شركة برمجيات لأنها درست هندسة كمبيوتر قامت بقرصنة واختراق موقع وحسابات نائبة رئيس حزب العمال وقتها هارييت هارمان. وقبلت هارمان اعتذارها الذي قدّمته لتفادي المحاكمة الجنائية وربما الطرد من السياسة للأبد.
بادنوك من المجموعة اليمينية المتطرفة في حزب المحافظين، وكانت ضمن فريق الخروج من الاتحاد الأوروبي (بريكست)، وشغلت مناصب وزارية صغيرة مختلفة في السنوات العشر الماضية في حكومات بوريس جونسون وليز تراس وريشي سوناك. وحين استقال جونسون نافست على زعامة الحزب لكنها خسرت. وأعادت المحاولة، لكنها فشلت مجدداً بعد استقالة تراس.
بعد عملها في مجال البرمجيات التحقت ببنك «أر بي إس»، وعملت لفترة مسؤولة المحتوى الرقمي في مجلة «سبيكتاتور» المحافظة. مع ذلك فهي لا تحترم الإعلام والصحافة، وسبق أن أُجري معها تحقيق بعد تشهيرها بصحفية في موقع «هافنغتون بوست» اعتبر انتهاكاً للخصوصية وتهديداً لسلامة الصحفية.
تتمتع كيمي بادنوك بعدة خصال تشبه تلك المعروفة عن وزيرة الداخلية السابقة في حكومة جونسون بريتي باتيل، التي سبق أن فصلتها تيريزا ماي من حكومتها؛ لقبولها رشوة من الإسرائيليين. وكثرت شكاوى الموظفين العاملين مع باتيل؛ بسبب «بلطجتها» ضدهم، حتى استقالت في النهاية. كذلك سبق أن اشتكى موظفون عملوا مع بادنوك من إهاناتها المتكررة لهم وبلطجتها تجاه العاملين. لكن جونسون دافع عنها وقتها وحفظت الشكاوى.
كذلك لا تحترم كيمي بادنوك موظفي العمل العام، وقالت مرة في كلمة عامة لها، إن عُشْـر هؤلاء الموظفين «مكانهم الطبيعي في السجن». تذكرك هذه المرأة بالصومالية إيان هرسي علي التي لجأت إلى هولندا بادعاء كاذب بالاضطهاد، وحصلت على منافع هائلة، ووصل بها الأمر إلى البرلمان الهولندي، قبل أن تحاكم على كذبها وتضليلها، وتجرد من جنسيتها، وتطرد من هولندا لتستقبلها بريطانيا وأمريكا.
صحيح أنه ربما ليس هناك جرم مثل هذا في حالة بادنوك، لكن الإنجليز معروفون تقليدياً بأنهم يُخفون عنصريتهم، على عكس بقية الأوروبيين. لكن في السنوات الأخيرة لم يعد هذا مهماً، وسادت الفجاجة في السياسة، وكان خير مثال عليها بوريس جونسون ورفاقه الذين تبجّحوا في انتهاك القانون. فلا ينتظر أن تعيد بادنوك القيم والأخلاق واحترام القانون للسياسة البريطانية.
0 تعليق