أحمد مصطفى
مع قرب نهاية العام تصدر شركات الاستشارات ومراكز الأبحاث وبنوك الاستثمار الكبرى، ومؤسسات التصنيف الائتماني وغيرها تقارير حول توقعات وتقديرات ما سيشهده العالم في العام التالي، سياسياً واقتصادياً وعلى كافة الصُعد. وصلتني كثير من تلك التقارير في الأيام الأخيرة، وأغلبها اقتصادية بحكم الاهتمام والمؤسسات التي أشترك باصداراتها، ولاحظت اختلافاً فيها عن كل عام.
بنهاية العام الماضي كانت الحرب في أوكرانيا مستمرة والعقوبات على روسيا تتوالى والتوتر المخنوق بين الولايات المتحدة والصين على أشده، سياسياً واقتصادياً، والحرب في الشرق الأوسط مشتعلة.. إلى آخر كل العوامل التي ما زالت مستمرة حتى الآن، وكانت التوقعات والتقديرات لهذا العام في أغلبها متسقة مع ما تحقق وحدث.
العامل المتغير الوحيد تقريباً الذي يجعل التوقعات والتقديرات للعام المقبل مختلفة هو انتخاب الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب مطلع شهر نوفمبر(تشرين الثاني) الماضي مجدداً، وتوليه السلطة في البيت الابيض في يناير (كانون الثاني)، ومع أنه أطلق الكثير من الوعود والتعهدات في حملته الانتخابية، بما يجعل من السهل حساب تبعاتها، وبالتالي التوقع والتقدير للعام المقبل، إلا أن السمة العامة لكل التقرير هي أنه «يصعب التوقع والتقدير، ولننتظرْ ونرَ».
لا يقتصر ذلك على الوضع في الولايات المتحدة، على أهميته باعتبار أنها القوة العظمى الوحيدة في العالم ولديها أكبر اقتصاد في العالم، وإنما بالنسبة لحالة العام كله تقريباً - لننتظر ونرَ، فما يمكن أن تقوم به إدارة ترامب، أو حتى لا تنفذه من وعودها، يؤثر في العالم كله. ليس التأثير قاصراً على الاقتصاد والتجارة كما يغلب على التحليلات والتعليقات، وإنما في كافة المجالات من السياسة والعسكرية إلى العلوم والبيئة.
تركز أغلب التحليلات على الحمائية التجارية والاقتصادية بوعود ترامب فرض رسوم وتعرفة جمركية على صادرات كافة شركاء أمريكا، مع قيود أكبر وهائلة على الصين، تليها المكسيك وكندا في حجم الرسوم والتعرفة، وسواء نفذت إدارة ترامب تلك التهديدات أو استخدمتها فقط للتفاوض على صفقات تعامل جديدة تكون الأفضلية فيها لواشنطن على حساب الشركاء فإن تأثيرها هائل على التجارة الدولية بشكل عام.
لكن ذلك ليس السبب الوحيد ولا حتى الأهم الذي يجعل الاقتصاديين والمحللين والخبراء السياسيين غير قادرين على توقع حالة العالم في ما هو قادم من أعوام، ليس فقط لأن الرئيس المنتخب معروف بتقلب المزاج ويصعب التنبؤ بتصرفاته ولا حتى لأنه سيحكم بشكل مطلق ومعه السلطة التشريعية والقضائية، وإنما لأن أجهزة الدولة في الولايات المتحدة، الرسمية وشبه الرسمية، لم تعد في وضع يمكنها من «ضبط» سلوك الإدارة. فتحالف السياسي الأول في العالم (الرئيس القادم دونالد ترامب) مع أغنى رجل في العالم (إيلون ماسك) يتفق بالأساس على تفكيك المؤسسات وتقليص نفوذها، وكلا الرجلين معروفان بالتشدد في الرأي والقناعة بنظريات الاعتماد على مواقع التواصل المضللة والسطحية.. إلى آخر ما هو مشترك بينهما وهو كثير، لكنه يعني في النهاية «معاداة المؤسساتية» والشطط في الرأي الى حد الخطأ الفادح من دون اهتمام بالعواقب.
ذلك تحديداً ما يجعل من الصعب التوقع والتقدير، ليس لحالة أمريكا فحسب بل ولحالة العالم بأسره، فسواء نفذت إدارة ترامب تهديداتها أو لم تنفذها، سترتفع قوة الدولار الأمريكي وهو ما يؤثر على أغلب اقتصادات العالم بل ويمتد التأثير إلى السياسة، خاصة بالنسبة للدول النامية والصاعدة عالية المديونية المقيمة بالدولار، كما أن احتمالات عودة التضخم في الاقتصاد العالمي تصبح أكبر وبالتالي ستتردد البنوك المركزية حول العالم في خفض أسعار الفائدة بسرعة، ما يعني استمرار كلفة الاقتراض عالية وهو ما يضغط على الشركات والمستهلكين على السواء.
ثم إن سياسة الحمائية وانسحاب أمريكا من دورها الدولي سيعني أيضاً أن دولاً كثيرة، على سبيل المثال الاتحاد الأوروبي واليابان، عليها أن تسرع بعملية الاعتماد على نفسها عسكرياً ما سيؤثر على النمو الاقتصادي بشكل عام. ذلك سواء نفذ ترامب تهديده بتقليل دور ومساهمة أمريكا في حلف الناتو أم لا، كذلك فإن قناعة ترامب وماسك بأن مكافحة التغير المناخي مجرد خدعة من شركاء أمريكا للإضرار بقدراتها سيعني زيادة هائلة في إنتاج النفط والغاز الأمريكي وكذلك زيادة التصدير ما سيأكل من نصيب دول نفطية تقليدية من السوق العالمية، بل إن مشروعات التحول في مجال الطاقة ستصاب بنكسة واضحة رغم الاستثمارات فيها بتريليونات الدولارات.
هناك أيضاً سبب غير مباشر يجعل كثيرين حول العالم لا يملكون سوى الانتظار ليروا ما سيحدث دون قدرة على التوقع والتقدير الذي يساعد صانعي السياسات على اتخاذ القرارات المستقبلية، ذلك أن «حالة» ترامب وماسك تلك ستعزز وضع أمثالهم من مقاومي المؤسسة من الرئيس الأرجنتيني إلى رئيس الوزراء المجري، بل إنها ستؤدي إلى بروز حالات مماثلة في أماكن أخرى من العالم ما يعني تغييراً شبه جذري في طريقة إدارة الدول والمؤسسات في أنحاء العالم.
في دراسة الطب لا يتم اللجوء إلى وضع «لننتظرْ ونرَ» مع المريض إلا بعد نفاد كل أساليب العلاج، ويبدو النظام العالمي حالياً مريضاً إلى حد ما ولم تفلح كل محاولات الإصلاح الجزئي أو «الترقيع» في تخليصه من الاختلالات الهيكلية المزمنة، وربما يكون في صدمة ترامب وماسك الحل – فلننتظرْ ونرَ.
0 تعليق