القاهرة: مدحت صفوت
تعتبر اللوحات الفنية، منذ القدم، أكثر من مجرد قطع مزينة بالألوان، إذ تعبر عن ثقافات وحضارات، وتروي قصصاً، وتثير المشاعر، وتستحوذ على أذهاننا. لكن ما الذي يجعل بعض هذه اللوحات تتجاوز قيمتها المادية لتصل إلى ملايين الدولارات؟، وما هي العوامل التي تؤثر في تحديد سعر اللوحة الفنية؟ وبعيداً عن أية أسئلة، يبقى الفن لغة عالمية تتجاوز الحواجز، واستثماراً في المستقبل، وتعبيراً عن الهوية والانتماء. قد لا نفهم لماذا يدفع الناس ملايين الدولارات لشراء لوحة، لكننا ندرك أن الفن هو جزء لا يتجزأ من الحضارة الإنسانية، وأن قيمته تتجاوز بكثير قيمته المادية.
هناك العديد من العوامل التي تتضافر لتجعل لوحة فنية تحظى بقيمة مالية عالية، من بينها: اسم الفنان الذي يعد العامل الأول والأهم في تحديد سعر اللوحة. فالفنانون المشهورون والبارزون تاريخياً تحظى أعمالهم بإقبال كبير من جامعي التحف والمستثمرين. كما أن الرسومات الفنية النادرة والوحيدة من نوعها تحظى بقيمة أعلى. في ما تحمل اللوحات الفنية القديمة والقيمة تاريخاً وحكايات، مما يزيد من جاذبيتها.
وإلى جانب العوامل السابقة، تحل عوامل أخرى من قبيل الانتماء إلى حركة فنية معينة أو مدرسة فنية شهيرة، كذلك حالة اللوحة من حيث الحفظ والصيانة، فالرسوم المحفوظة جيداً والتي لا تحمل أي أضرار تكـون أكثر قيمة، إضافة إلى أن بعض الموضوعات الفنية تحظى بشعبية كبيرة، وما تلعبه المزادات الفنية من دور حاسم في تحديد أسعار اللوحات، حيث تتنافس العروض على شراء اللوحة الواحدة، فضلاً عن حالة الاقتصاد العالمي التي تؤثر بشكل كبير في سوق الفن، ففي أوقات الازدهار الاقتصادي، يزداد الطلب على اللوحات الفنية كأصول استثمارية آمنة.
فارق
أمّا بشأن اللوحات العربية، فثمة سؤال يثار من وقت لآخر حول أسباب عدم بيع أعمال الفنانين العرب بالملايين، باستثناء حالة نادرة سنتناولها فيما بعد، لكن لا تحل في مقدمة اللوحات العالمية، وهناك فارق كبير في الأثمان حتّى مع المثال الاستثناء واللوحات العالمية. وتتداخل أسباب شتّى لتعطي صورة أوضح عن سبب عدم تحقيق اللوحات التشكيلية العربية الأسعار الغربية.
بداية، يتركز معظم اهتمام جامعي التحف والمزادات العالمية على الفن الغربي، خاصة الأوروبي والأمريكي. تركيز تاريخي يعزز من قيمة هذه الأعمال ويجعلها أكثر طلباً، ولا تحظى اللوحات العربية بمستوى الترويج والتسويق نفسه الذي تحظى به الرسومات العالمية، فضلاً عن أن تاريخ الفن الغربي أطول وأكثر تأسيساً، مما يعطي أعمال الفنانين الغربيين هالة من القدسية والتاريخية.
وغالباً ما ترتبط قيمة العمل الفني بهويته الثقافية. فالأعمال الغربية، خاصة الانطباعية والتكعيبية، ارتبطت بثورات فنية شكلت تاريخ الفن، مما زاد من قيمتها. أمّا الفن العربي، رغم تنوعه، لم يتمكن بعد من بناء هوية ثقافية فنية عالمية بهذا الحجم. كما تلعب قوة الاقتصاد دوراً مهمّاً في سوق الفن، إذ تمتلك دول العالم الأول قاعدة اقتصادية أقوى، مما يزيد من قدرة مواطنيها على شراء الأعمال الفنية باهظة الثمن.
ويضاف إلى ذلك، نقص في الخبراء المتخصصين في الفن العربي، مما يؤثر في تقييم الأعمال الفنية وتحديد قيمتها، كما لا يوجد عدد كبير من المستثمرين العرب والأجانب المهتمين بالأعمال العربية. لكنّ أيضاً ثمة دوراً للفنانين أنفسهم، الذين يركز الكثير منهم على الفن التقليدي، وهو فن أقل جاذبية للمشترين الغربيين الذين يفضلون الفن المعاصر.
ورغم هذه التحديات، هناك تطور إيجابي في سوق الفن العربي. يظهر جيل جديد من الفنانين العرب المبدعين، ويزداد الاهتمام بالفن العربي في العالم، مع زيادة الوعي بأهمية الفن، وتطوير البنية التحتية لسوق اللوحات التشكيلية، ما يعني إمكانية أن نشهد في المستقبل ارتفاعاً في أسعار اللوحات العربية.
إعادة اكتشاف
في العام الجاري، جرى اكتشاف لوحة ربما تكون من أعمال الفنان بابلو بيكاسو في إيطاليا. عثر عليها تاجر خردة يدعى لويجي لو روسو عام 1962 أثناء تنظيفه قبو منزل في كابري، ووضعها في إطار وعلقها في منزل عائلته. وكان ابنه أندريا لو روسو يشك دائماً في أنها لوحة أصلية لبيكاسو.
وحسب مقالات وتقارير غربية، فيُعتقد أن الصورة تصور حبيبة بيكاسو وملهمته، المصورة والرسامة الفرنسية دورا مار. كما تحمل اللوحة توقيعاً في الزاوية العلوية اليسرى. وبعد سنوات من التحقيق من قبل الأسرة، مع فريق من الخبراء، جرى تحديد أن التوقيع أصلي. ومع ذلك، فإن التحقق من صحة عمل بيكاسو عملية معقدة تتضمن ديناميكيات قانونية وعائلية. وفي الوقت الحاضر، يخطط لو روسو وفريقه لتقديم أدلتهم إلى مؤسسة بيكاسو. وإذا تم التحقق من صحة اللوحة، فقد تقدر قيمتها بنحو 6 ملايين يورو.
ما سبق، ليست المرة الأولى التي يُعاد فيها اكتشاف عمل لفنان ماهر هذا العام. ففي إبريل/نيسان الماضي، بيع عمل للرسام النمساوي غوستاف كليمت كان يُعتقد ذات يوم أنه ضاع في مزاد مقابل 32 مليون دولار، وهو العمل الذي رسم بعنوان «صورة السيدة ليسر» في عام 1917 ويُعتقد أنه أحد أعمال كليمت الأخيرة، مما زاد من قيمته الثقافية والسوقية بشكل كبير.
مؤكد أن الكثير من اللوحات التي رسمها أساتذة قدامى وحديثين ضاعت بمرور الوقت لأسباب مختلفة، وغالباً ما بيع العديد منها بعد ظهورها مجدداً في المزادات بمبالغ غير معلنة لمشترين أو مؤسسات خاصة، مما يجعل من الصعب فهم النطاق الكامل والقيمة والقصص وراء هذه الأعمال الفنية. ففي القرن الحادي والعشرين، تصدرت العديد من اللوحات المعاد اكتشافها عناوين الأخبار بسبب الظروف غير العادية التي جلبتها إلى انتباه الجمهور.
الاستثناء
أمّا بالنسبة للمثال الاستثناء الذي سبق أن أشرنا إليه، ففي مصر، حققت لوحة «الدراويش المولوية» للفنان المصري الرائد محمود سعيد رقماً قياسياً جديداً في العام 2010 في عالم المزادات الفنية، بعد أن بيعت بمبلغ خيالي في مزاد كريستيز بدبي عام 2010. وأثبتت هذه اللوحة، التي رسمها الفنان عام 1929، أنها واحدة من أغلى اللوحات المصرية الحديثة في العالم.
واستطاعت لوحة سعيد أن تخطف الأنظار وتسرق الأضواء في مزاد دار بونهامز، مؤكدة بذلك مكانة هذا الفنان الكبير في قلوب جامعي الأعمال الفنية حول العالم. وأطلقت دار المزادات صرخة فنية مدوية، معلنة عن عرض جوهرة من جواهر الفن المصري، لوحة فريدة من لوحات سعيد، لتكون محط أنظار العالم.
وتتربع أعمال سعيد على عرش المزادات الفنية، حيث تحتل مكانة الصدارة بين أعمال الفنانين العرب، محققة أعلى الأسعار. وتتصدر الأعمال قائمة أغلى اللوحات المصرية المعاصرة، حيث تجاوزت قيمة العديد منها حاجز المليون دولار، مما يؤكد قيمتها الفنية الاستثنائية. و«الدراويش المولوية» رسمها الفنان المصري في العام 1929، وبيعت بمبلغ مليونين و546 ألف دولار في مزاد كريستيز الذي أقيم في دبي يوم 26 أكتوبر/تشرين الأول 2010.
ومن جهة، حققت لوحة «الدفن» قفزة نوعية في عالم المزادات، لتسجل رقماً قياسياً ببيعها بمبلغ 630 ألف جنيه إسترليني، متجاوزة التوقعات بنحو 130 ألف جنيه إسترليني.
قوائم
تثير أسعار اللوحات الفنية الكثير من الجدل والنقاش. فمن ناحية، هناك من يرى أن هذه الأسعار مبالغ فيها ولا تعكس القيمة الفنية الحقيقية للوحة. ومن ناحية أخرى، يرى البعض أن هذه الأسعار تعكس القيمة الثقافية والتاريخية للوحة، وأنها استثمار جيد على المدى الطويل.
في قائمة أسعار اللوحات، يبلغ الرقم القياسي نحو 450.3 مليون دولار مقابل لوحة «سالفاتور موندي» لليوناردو دافنشي، التي بيعت في نوفمبر/ تشرين الثاني 2017، من خلال دار المزادات كريستيز في مدينة نيويورك. كما تسرد موسوعة غينيس للأرقام القياسية لوحة «الموناليزا» لدافنشي باعتبارها ذات أعلى قيمة تأمين للوحة. في العرض الدائم في متحف اللوفر في باريس، وجرى تقييم اللوحة الأشهر بمبلغ 100 مليون دولار في 14 ديسمبر/ كانون الأول 1962، مع الأخذ في الاعتبار التضخم، فإن قيمة عام 1962 ستكون نحو 1010 ملايين دولار في الوقت الحالي.
فينسنت فان جوخ وبابلو بيكاسو وآندي وارهول هم الفنانون الأكثر تمثيلاً في القائمة. في حين أصبح بيكاسو ووارهول رجالاً أثرياء، يُعرف عن فان جوخ أنه باع لوحة واحدة فقط في حياته، وهي The Red Vineyard، مقابل 400 فرنك فرنسي، نحو 2000 دولار أمريكي، في عام 1890.
أمر نسبي
يبقى السؤال: هل أسعار اللوحات الفنية مبررة؟ هل الفن يستحق حقاً هذه المبالغ الطائلة؟ الإجابة عن هذا السؤال تختلف من شخص لآخر، فالقيمة الفنية أمر نسبي يعتمد على الذوق الشخصي والتوجهات الثقافية. وسوق الفن عالم معقد ومتشابك، يتأثر بالعديد من العوامل الاقتصادية والنفسية والثقافية. وأسعار اللوحات الفنية قد تبدو مبالغ فيها للبعض، لكنها بالنسبة لآخرين استثمار في الجمال والخلود.
لماذا يدفعون الملايين؟
تتراقص الأرقام الفلكية في مزادات الفن، وتهتز القلوب مع كل صفقة جديدة تسجل رقماً قياسياً جديداً. لوحة تباع بملايين الدولارات، وأخرى تتجاوز التوقعات بفارق شاسع، فما الذي يدفع الناس إلى دفع مثل هذه المبالغ الطائلة مقابل قطعة قماش مزينة بالألوان؟ إنها ليست مجرد لوحة، بل قصة تحكيها الألوان، وحضارة تتجسد في كل ضربة فرشاة. استثمار في الزمن، رحلة عبر العصور، وسجل لتطور الحضارة الإنسانية. فالفن ليس مجرد ترف، بل لغة عالمية تتجاوز الحواجز اللغوية والثقافية، تحمل في طياتها أفكاراً ومشاعر لا تستطيع الكلمات التعبير عنها.
عندما يشتري شخص ما لوحة لفنان مشهور، فإنه لا يشتري مجرد قطعة فنية، بل جزء من تاريخ الفن. أسماء مثل فان جوخ ومونيه وبيكاسو أصبحت علامات تجارية تحمل في طياتها قيمة تاريخية وثقافية لا تضاهى. فالفنون التشكيلية، كغيرها من الأصول الثمينة، تزداد قيمتها بمرور الوقت، خاصة إذا كانت نادرة أو تعود لفنانين مشهورين. كما أن امتلاك لوحة فنية أكثر من مجرد استثمار، إنه تعبير عن الهوية والانتماء. فكل لوحة تحمل بصمة فنية فريدة تعكس رؤية الفنان للعالم، وشراء هذه اللوحة يعني الانضمام إلى مجتمع من المهتمين بالفن، والاعتراف بقيمة الإبداع الفني.
0 تعليق