د. يوسف مكي
لا جدال في أن أقطارنا العربية لا تزال في عداد البلدان النامية، التي لم تتمكن بعد من اجتياز واقع التخلف، وهيمنة البنى الاجتماعية القديمة. وقد عالجت نخب عربية عديدة، في مشرق الوطن ومغربه، هذا الموضوع، بغزارة وكفاءة بما يعني أن المعضلة التي نعانيها الآن ليست مسألة تشخيص الواقع، بل خلق آليات عملية لتجاوزه.
والواقع أن هذا الموضوع كان محل اهتمام كبير من قبل مركز دراسات الوحدة العربية، في بيروت. وقد تصدى له بقوة، وعقد ندوات ومؤتمرات عديدة، للخروج بصيغة مشروع نهضوي عربي، صدرت في كتابين مستقلين، ونشر ملخصاً للمشروع في كتيب صغير صدر عن المركز.
إذن فمعضلة الواقع العربي الراهن ليست في عدم القدرة على تشخيص أسباب تخلف الأمة، بل هي في جزء منها نتاج عاملين رئيسيين، الأول هو غياب المشروع العملي للخروج من نفق الأزمة، والآخر هو غياب الحامل الاجتماعي للمشروع.
وحين نقوم بمقاربة سريعة بين عصر الأنوار الأوروبي، الذي سبق الثورة الصناعية، وقد عبرت عنها أفكار روسو ومونتيسكو ولوك وهوبز، وأدب هيجو وفولتير، وبين عصر التنوير العربي، وما تمخض عنه من محاولات لتجديد الفكر والثقافة العربيين، نجد أن المرحلة الرومانسية في الفكر والأدب والفنون الأوروبية هي البوصلة التي رسمت معالم الطريق لما بعد اندلاع الثورة الصناعية. وكان أرباب العمل هم الحاضن الاجتماعي لدولة المواطنة والعقد الاجتماعي، وللحقوق الفردية والملكية الخاصة.
في الوطن العربي تعطل مشروع التنوير بشكل واضح منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، وجرى تدمير ممنهج للقوى الاجتماعية، التي بذرت نبتات التنوير. وللأسف لم تبرز حتى يومنا هذا قوة اجتماعية تحتضن هذا المشروع. وبالتأكيد فإن الوعي بهذه الحقائق، على مراراتها، يفتح بوابات أمل جديدة بإمكانية تجاوز واقع التخلف الراهن.
وجود ثنائيات الحداثة والتخلف، الأسطورة والعلم، الأرياف والمدن، ليس حكراً على ثقافتنا ومجتمعاتنا العربية. فليس هناك مجتمع حداثي خالص، وكذلك قضايا المعاصرة والتقدم، هي أمور نسبية. وقد تعايشت هذه الثنائيات مع بعضها منذ القدم. فهناك مع توهج حضارة الإغريق، ماديون ورواقيون وأبيقوريون.
وفي العصر العربي وجد شعراء مجددون، كأبي تمام، وآخرون وجدوا في الماضي ذروة ما أبدعته الحضارة. الفكر المحافظ يرى أنه ليس بالإمكان أبدع مما كان، والفكر المجدد يسترشد بمقولة أنك لا تستطيع أن تعوم في ماء النهر مرتين. والأفكار بكل تنوعاتها لا تموت، وإنما تأخذ أشكالاً جديدة. وما كان معاصراً بالأمس يغدو غير ذلك حين لا يتعايش ويتكيف مع التطور التاريخي، ومنجزات العلم والحضارة.
النهوض وآلياته وهياكله هو الذي يضمن السير إلى الأمام، دون تهميش أو إقصاء للآخر، وبضمنها الأفكار. فعلى سبيل المثال، وقفت الكنيسة في فرنسا ضد الثورة، لكنها الآن تدافع عن الديمقراطية، التي هي جوهر وروح الثورة الفرنسية، لأنها تفقد صلتها بالواقع، وتفقد قوة حضورها إن لم تتكيف مع الهياكل الاجتماعية الجديدة. ومثل ذلك يقال عن الكاثوليك، الذين اندلعت ثورة المتطهرين لمصادرة دورهم، والانتصار للإصلاح الديني اللوثري. وذلك من ضمن الأسباب التي دفعت ماكس فيبر إلى وصف العقلانية القانونية بالأخلاق البروتستانتية. والكاثوليك الآن يشاركون بالفعل في كل المجالات الفكرية والسياسية وفقاً للشروط التي هيأت لها حركة الإصلاح الديني في إيطاليا وبريطانيا وفرنسا.
في الوطن العربي يعاني المثقف غياب الحرية، التي هي عنصر لازم لأي عمل فكري أو إبداعي. ولا يمكن لأي مجتمع من المجتمعات أن يعيش من غير ثقافة خاصة، مهما كانت درجة الاندماج بالحراك الإنساني الدائر من حولنا. نحن نستهلك في كل شيء إلا الأفكار، وما نستهلكه يأتي في صيغة استنساخ مشوه. لا مناص من العبور إلى وعي جديد، ينقلنا من صفة الناقلين للأفكار إلى صفة الشركاء. وحين ننتقل إلى هذه الصفة لن يكون هناك مكان للخوف، لأن في تاريخنا العريق من تراكم الحضارة والمواريث ما يؤهلنا لأن نلعب هذا الدور.
وفي ظل المحاولات المسعورة الراهنة لتفكيك بنية الدولة الوطنية، في عدد من البلدان العربية، ينبغي التركيز على وجود هوية وطنية جامعة، على مستوى الوطن العربي. والحركة القومية هي في الأصل حالة تعبوية ضد التجزئة وواقع التخلف الذي عاشته معظم هذه الأقطار، تحت الاحتلال، وتفرعاته. وقد رأينا أن تراجع المشاريع الجامعة، في صيغتها القومية العربية أدى إلى شيوع نزعات التفتيت، والمحاصصة. لذلك تبقى أهمية استعادة الروح الوطنية للحفاظ على الأوطان، في عصر تكتلات كبرى، ونظام دولي منفلت ليس فيه مكان إلا للأقوياء.
الذين تحدثوا في ما مضى عن الثقافة الواحدة، وعن نهاية التاريخ يضعون أنفسهم في تناقض فاضح بين تشجيع الهويات الصغيرة التي اندثرت منذ زمن قديم، وإن بصيغة الهيمنة والقسر والاحتلال، والدعوة لاندثار الهويات والثقافات الحية السائدة.
ما نأمله باختصار هو كفاح المثقف العربي من أجل تدشين نظام عربي تحديثي عصري المنازع والتوجهات، قادر على مواجهة هيمنة الدول المتقدمة، في العلم والتكنولوجيا والقوة العسكرية. وهو نظام ينبغي أن يجعلنا داخل النظام الكوني الجديد، بعيداً عن حواجز الخوف والشك والارتياب والشعور بالدونية إزاء تفوق الآخر ونهجه العدواني.
[email protected]
0 تعليق