لوحات بأسعار مجنونة.. الفن أسير بورصة الأسواق - ستاد العرب

0 تعليق 0 ارسل طباعة تبليغ حذف

الشارقة: علاء الدين محمود

أصبح العمل الفني من نصيب الأثرياء والمؤسسات العالمية الكبرى، أما النسخ المقلدة فتذهب للفقراء، هكذا يبدو الحال في مشهد الفنون التشكيلية، حيث التنافس المحموم على شراء واقتناء اللوحات العالمية سواء كانت لرسامين كبار أو لمجهولين، إذ إن هناك عواملَ تتحكم في سعر القطعة الفنية، منها الترويج من قبل التجار واسم الفنان، كما أن بعض الأعمال تظهر فجأة لتصبح «ترند»، في عصر تكنولوجيا الاتصالات الحديثة، والأمر اللافت في كل ذلك هو ذلك اللهاث الذي قد لا يبدو طبيعياً، على تملك اللوحات خاصة وسط طبقات الأثرياء حول العالم، الشيء الذي يجعل أسعار اللوحات تتصاعد بصورة قد تبدو غير طبيعية أو غير منطقية، الأمر الذي يثير العديد من الأسئلة على رأسها: هل أصبحت الفنون مجرد سلع في عصر الاستهلاك هذا؟ هل أصبحت الأعمال الجمالية ضمن قوانين السوق والعرض والطلب والموضة، أم أن هناك منطقاً وراء ذلك التنافس؟
التجارة في اللوحات التشكيلية توسعت في القرن التاسع عشر 
لا شك أن تاريخ بيع القطع الفنية قديم، قدم الفنون نفسها خاصة في العصور الحديثة، حيث انتشرت ظاهرة المزادات لبيع اللوحات والأعمال الإبداعية، وازدهر ذلك النشاط مع تطور الفنون خاصة في القرن السابع عشر، مع ظهور فئات المثقفين في الطبقات الوسطى في أجزاء واسعة من أوروبا، وبصورة أكثر خصوصية في هولندا وإيطاليا وانجلترا وفرنسا، حيث كانت تلك التجارة تمارس في المقاهي وأماكن التجمعات الكبيرة، وتطورت المزادات أكثر في القرن الثامن عشر وانتشرت الدور الكبيرة المتخصصة في ذلك النشاط التجاري، وكان التوسع الأكبر في القرن التاسع عشر مع حركة الانفتاح الأوروبي على الثقافات الأخرى عبر النشاط الاستعماري، أما في العصر الحديث فقد صارت المزادات أكثر انتشاراً إذ تحولت إلى شركات «سلع فاخرة»، إذ تطور الفن في الثمانينيات من القرن الماضي بوصفه استثماراً بديلاً، وبدأ المستثمرون النظر في الفوائد المالية لجمع الأعمال الفنية، ولعب المشترون اليابانيون، بدافع من إعادة تقييم الين في عام 1985، دوراً أساسياً في ازدهار السوق، والآن صار الأمر أكثر احترافية وازدهاراً مع ظهور ثورة الاتصالات والرقمنة، فباتت تلك التجارة تُعقد عبر حركة البث المباشر ليتداخل الأثرياء عبر العالم من أجل اقتناء اللوحات التي يجمع الخبراء على جودتها، إلى جانب التجمعات التقليدية التي تمارس فيها تلك التجارة في مشهد يزداد جنوناً يوماً بعد يوم، ليشكل حالة لا تبدو مفهومة خاصة تلك الأسعار الباهظة التي تدفع في اللوحات حتى تلك التي أبدعت بواسطة فنانين كبار أمثال فان جوخ، وبيكاسو، ومونيه، ودالي، أو فنانين من العصر الراهن.
علاقة الفنون بالتجارة والأثرياء قديمة، لكنها تحولت إلى ما يشبه «اللوثة» في هذه الألفية، حيث أصبحت الأعمال الفنية تخضع للمعايير والمصطلحات الجديدة التي تشير إلى الصرعة والموضة مثل «الترند»، و«البراند».


جنون
يظن البعض أن هناك اهتماماً حقيقياً من قبل بعض الأثرياء في الطبقات المخملية بالفن والإبداع، غير أن المفارقة، أن العديد من الذين اشتروا وتملكوا قطعاً فنيةً لم تكن تربطهم علاقة بالثقافة والفنون، وهناك بعض الرصد والإحصائيات حول ذلك الأمر، إذ يشار إلى أن الملياردير الروسي ديمتري ليبولفيف، لم يكن له أية اهتمامات فنية، وعلى الرغم من ذلك اشترى في عام 2014، لوحة بعنوان: «الرقم 6 بنفسجي أخضر أحمر» للرسام الأمريكي مارك روثكو ب140 مليون يورو، وكذلك لم تُعرف للاقتصادي الأمريكي كينيث جريفين أية اهتمامات فنية، لكن ذلك لم يمنعه من اقتناء لوحة للرسام الأمريكي جاكسون بولوك، بعنوان «الرقم 17» عام 2015، ب177 مليون يورو، وذلك الأمر ينطبق أيضا على الملياردير الصيني ليو يي تشيان، الذي قام بشراء لوحة مشهورة عام 2015، بعنوان «كوسين بلو»، للإيطالي أميديو موديلياني ب170 مليون دولار، ووضعها في متحفه الخاص مع بقية لوحاته، فيما لا تزال لوحة «سالفاتور موندي»، للرسام ليوناردو دافنشي تتصدر قائمة أغلى الأعمال الفنية في العالم، حيث بيعت مقابل 450.3 مليون دولار في مزاد عام 2017.
سمات العصر
ولعل كل هذا يشير إلى أن وراء ذلك الاهتمام بالفنون من قبل أشخاص لا علاقة لهم بها أسباباً غير الجمال، ربما من بينها التباهي والتفاخر وكذلك الترويج عن الذات، أي كأن الشخصية الثرية أو التي تعمل في التجارة والاقتصاد تشتغل على ترويج ذاتها وصنع شهرتها ومكانتها عبر الاهتمام الزائف بالفنون، لتكون نتيجة هذا الأمر ذلك الارتفاع الباهظ في أسعار القطع الفنية، إضافة إلى ذلك فإن طابع العصر نفسه له تأثير كبير مع سيادة ثقافة الاستهلاك والعولمة والليبرالية الجديدة، حيث تسود قيم حب «التملك»، و«الاقتناء»، و«التنافس»، خاصة في تلك «السلع الفاخرة»، أي الأعمال الإبداعية، حتى أصبحت تلك الإبداعات الإنسانية ذات الطابع الجمالي حكراً على الأثرياء فقط.
موزة معلقة
وربما كان الدليل الأكبر على الجنون، أو ربما تغير مفاهيم الفنون، هو ذلك العمل الموصوف بالإبداعي الذي يحمل عنوان «الكوميدي»، والذي ابتكره الفنان الإيطالي ماوريزيو كاتيلان، عام 2019، حيث إن العمل عبارة فقط عن موزة معلقة على الحائط ومثبتة بواسطة شريط لاصق، وأخذ سعرها ينمو ليصل إلى مبلغ 6.24 مليون دولار في المزاد الذي نظمته دار سوزبي للمزادات في نيويورك خلال العام الجاري، ولقى العمل جدلاً وسط الفنانين والنقاد أنفسهم ناهيك من الجمهور، وفيما رأى البعض أن الفن ما يقدمه الفنان بغض النظر عن ماهيته، إلا أن آخرين وجدوا أن العمل ربما يكون سخرية من الأغنياء أنفسهم لمعرفة الفنان أنهم قد يتهافتون على ذلك التكوين الغريب، غير أن كاتيلان، رفض أن يكون عمله بلا غاية، فقد أشار إلى أن الأمر ليس مزحة.
رفض التنافس
عدد من الفنانين والمبدعين في حقل الفنون التشكيلية في الدولة، تباينت أراؤهم حول الارتفاع الباهظ في أسعار اللوحات واللهاث نحو اقتنائها من قبل الأفراد الأثرياء والغاية من ذلك، ومدى حدوث تغيير في معاني الجمال ومفاهيمه.
الفنان عبد الرحيم سالم، انطلق في حديثه من نقطة غاية في الأهمية، عندما أشار إلى أن الأعمال المفاهيمية في الأصل، عندما ظهرت، حملت رؤى وأفكاراً من ضمنها إبعاد حالة التنافس والشغف في التملك من قبل الأثرياء، وإعطاء الناس بمختلف مواقعهم ومنابتهم الاجتماعية فرصة لمشاهدة الأعمال في ذات الأماكن التي تصمم وتبدع فيها، ومثال على ذلك العمل الفني الذي ابتكره الفنان الفرنسي ميشيل دوشان، عام 1917، والذي أطلق عليه اسم «المبولة»، وهو عبارة عن مبولة جاهزة الصنع لم يقوم دوشان حتى بتصميمها بنفسه، لكي يؤسس بهذا لعصر جديد سيغير وجه الفنون التشكيلية في القرن العشرين، حيث إن كل ما فعله دوشان هو تغيير وضعية المبولة الجاهزة لتكون بوضع قائم وكتابة بعض الأحرف عليها، وكانت الفكرة المركزية لدى دوشان هي إبعاد الأثرياء والاقتناء الخاص بحيث يصبح الفن مشاعاً للجميع، غير أن ذلك الأمر لم يوقف الأثرياء والتجار عن اللهاث وراء القطع الفنية، وأن المفارقة تكمن، كما في عمل الموزة المعلقة، في أن هذه الأعمال وجدت، رغم بساطتها، رغبة من قبل الأغنياء في تملكها.
وذكر سالم أن التنافس بين الفنانين في العصور السابقة كان حول إبراز القوة التعبيرية لكل فنان، غير أن المفاهيمية حاولت أن تعطي فرصة أكبر للجانب الفكري والتبسيط حتى تصل معاني العمل للمشاهد بسهولة، لكن ومع بداية الألفية الجديدة، بدأت المزادات تتسابق نحو هذه الأعمال، وكان محبو الاقتناء يجرون خلف اسم الفنان وشهرته أكثر من معاني العمل الذي أنجزه.
وأوضح سالم أن هذا التنافس بين الأثرياء لامتلاك الأعمال الفنية بمختلف أنواعها، يشبه تنافس ذات الطبقة على العلامات التجارية الفاخرة، كما أن بعضهم يشترى العمل الفني من أجل بيعه مرة أخرى، وهناك حب الاقتناء لمجرد الامتلاك لإشباع الرغبات الذاتية وتحقيق «الأنا»، وليس لقيمة العمل الإبداعي.
سؤال
الفنان الدكتور محمد يوسف، طرح سؤالاً، لماذا الاقتناء في الأساس؟ ولماذا تلك الرغبة المجنونة في الامتلاك؟ رغم أن الفن يحض وينشد قيماً غير تلك، لافتاً إلى أن هذا السعي المحموم نحو اقتناء اللوحات والذي قاد إلى غلاء الأسعار ووصولها إلى أرقام فلكية هو أمر غير طبيعي.
ويرفض يوسف المقارنة بين الفن وغاياته في زمن سابق وما يشهده العالم اليوم، حيث اختلف التفكير الإبداعي بصورة كبيرة وأصبح العبث والجنون هما سيدا الموقف وكذلك الإثارة المختلة، ولم يعد هناك مكان للعقل البشري والقدرات الفنية الحقيقية.
الفنان خليل عبد الواحد اتجه بالحديث إلى منحى مغاير، حيث أشار إلى أن بعض الفنانين نجحوا في أن يصنعوا لأنفسهم ماركة مسجلة، واستطاعوا أن يضعوا بصمتهم في عالم الفن وبالتالي ارتفعت أسعار لوحاتهم وأعمالهم، ولإن كان هذا العصر هو عصر الاستغراق في شراء السلع من أجل الاستهلاك فمن الأفضل أن يكون هذا التوجه نحو اللوحات والأعمال الإبداعية فتلك خدمة للفنون.
وأوضح خليل، أن هنالك أعمالاً وصلت إلى مبالغ طائلة، وهنالك بعض المبالغات في ذلك الأمر وأنه لا يؤيد أن تكون اللوحات والتكوينات الفنية حكراً لأصحاب المال فقط، غير أن تنافس المقتنيين زاد من شهرة بعض الأعمال التي كانت مجهولة ورفع من قيمتها، لذلك فإن التسويق والترويج أدوات لها قيمتها رغم انتمائها لعالم السوق.

نخبوية تاريخية

الفنان ثائر هلال عضو الهيئة التدريسية في كلية الفنون الجميلة والتصميم، في جامعة الشارقة، ذكر أن العمل الفني هو، نخبوي، للأسف الشديد، حيث لا يمتلك الفقراء الإبداعات الفنية بل ينتجونها بشكل عبقري بمختلف مستوياته، فمعظم الفنانين من الفقراء، وربما كان ذلك سبب في ظهور تيارات فنية جديدة ترفض تسليع الفن وترفض دخوله صالات البيع أو حتى تقييمه مادياً، ويدافع أصحاب هذه المفاهيم عن حق الناس في التمتع وتداول العمل الفني بعيداً عن التكلف وصالونات المال المترفة والبنوك ودور المزادات، وربما المتاحف لأن المتاحف الآن تلعب دور واجهات العرض المترفة لتسويق المنتج الفني التي تتحكم فيها أموالٌ طائلة ومؤسسات مالية عملاقة تمنح منتجاتها نوعاً من الهالة والقدسية بشكل يتعالى على الناس، وتجعل من الفقراء مجرد جمهور يدفع الضرائب في المتاحف وصالات العرض أو ربما عبر «السوشيال ميديا» وتفرض عليهم الأمزجة وشكل الذوق العام للتمتع بالمنتج الفني من خلف زجاج وزجاج مقاوم للرصاص في بعض الحالات، وتلك حقيقة مرة.

دور بارز

ولفت هلال إلى أن دور المزادات في القرن العشرين لفتت الانتباه لاهتمامها بالفنون المعاصرة وكذلك الفنون المفاهيمية، والفنون ذات الطبيعة الزائلة مثلاً، وهذا ما أثار جدلاً غير عادي مؤخراً كون هذه الأعمال حياتها قصيرة وقابلة للزوال أو ليس لها أثر مادي، خصوصاً عندما يتم تداولها في أسواق المال والبورصة بمبالغ مالية هائلة وأحياناً من خلال العملات الرقمية، وهذا يعني أننا ندخل في مجالات جديدة ستؤثر بالسلب على الفن.

أخبار ذات صلة

0 تعليق