السّرديّات وحواملُها - ستاد العرب

0 تعليق 0 ارسل طباعة تبليغ حذف

السرديّات منظوماتٌ قوليّة محبوكة يَصْرفها حائكوها إلى نقْل خطاباتٍ محدّدة إلى متلقِّين يُراد إبلاغُهم مضامينَ بعينها، أو إقناعُهم، أو استمالتُهم والتّأثير فيهم... تناسُباً مع الأغراض المهدوف إلى بلوغها عند مَن يُنشئون تلك البنى القوليّة. السّرديّات، بالمعنى هذا، رواياتٌ تدور على موضوعاتٍ ومضامينَ متعدّدة، وتُسْتقى موادُّها من مصادرَ متباينة: من الواقع، أو من أخبارٍ عن حوادثَ تصرّمتْ في الزّمان أو من عمليّة التّخيّل...، وقد تدخُل هذه، جميعُها أو بعضُها، في تكوينها تبعاً لنوع السّرديّة المتغيّاة. المهمّ في السّرديّات جودةُ البناء وحسْنُ الصّنعة والحياكة، لأنّ ذلك من عُدّة شُغلها ووظيفتها وممّا تَلْزُب به عمارتُها الحِكائيّة.
ليس معنى ذلك أنّ الواقعيَّ في السّرديّات ليس ذا أهميّة كبيرة، أو أنّ في الإمكان الاعتياضَ عنه بجودة حياكة ما يقع تقميشُه من موادَّ متباينة: متخيَّلة في الأساس وقريبة الشّبه بما هو واقعيّ، ذلك أنّ بعضاً من أنواع السّرديّات لا تُوزن قيمتُه إلا بموازين مطابَقةِ المسرود للواقع، ومن ذلك، مثلاً، السّرديّات التّاريخيّة والسّرديّات السّياسيّة وسائر أنواع السّرديّات التّقريريّة التي مَبْناها على المعطيات الماديّة وعلى المعلومات عنها، فيما يمكن لأنواعٍ أخرى من السّرديّات أن تنشئ لنفسها فضاءاتها الواقعيّةَ الذّاتيّةَ من موادَّ ينتمي أكثرُها إلى ما هو متخيَّل فيكون لها، بالتّالي، واقعُها الخاصّ بها: زمنُها، ومكانُها، وشخوصُها وأحداثُها والعلاقات: وليست السرديات الأدبيّة إلا تعبيراً عن هذا الضّرب الذي يُشيِّد واقعَه الخاصّ محاكياً الواقع الخارجيّ أو مبارِحاً له. وكلٌّ من النّوعيْن يُقْرأ في ضوء معطيات واقعه: الخارجيّ أو الدّاخليّ.
ليس يمكن التّعامُل مع السّرديّات، إذن، إلا من حيث هي خطابات حاملةٌ رسائلَ ومضامينَ بعينها من مُرْسِلها إلى من تتوّجه إليه. إنّ مقولَها المحمولَ هو غرضُها الرّئيسُ الذي من أجله حيكت ونُسِجَت، يستوي في ذلك ما أخذ شكلاً تقريريّاً منها وما لَبِس لبوساً أدبيّاً. على أنّ مفعوليّة الخطاب في متلقّيه تحتاج من مُرْسِله جميلَ العناية بجهاز السّرديّة وحُسْن زِفافها إلى ذلك المتلقّي، تماماً مثلما هي تحتاج إلى قدْرٍ ما من الإقناع بذلك المحمول: ليس الإقناع بواقعيّته أو صدقه أو وجاهته، فحسب، بلِ الإقناعُ بفائدته الرّمزيّة أو الجماليّة وما يتحقّق من متعةٍ به أيضاً. لذلك ينصرف السّارد، في العادة، إلى تَخَيُّرِ الأَنسبِ من الأدوات والطّرائق والأَجذبِ إلى الانتباه قصد تأمين السّبيل إلى يُسْر الاستقبال واهتياج رغبته لدى الجمهور المخاطَب/المتلقّي. إنّ جاذبيّة السّرديّة شرطٌ لازِبٌ لسريان مفعوليّتها، وسوْغِ خطابها واستمرائه، ولا يكون لها القدْرُ المناسب والمفيد من الجاذبيّة والإغراء إلا متى وقَع الإتقانُ في صَنْعتها وسُخِّر لذلك كلُّ ممكنٍ تعبيريّ.
ولأنّ السّرديّات منظوماتٌ من الرّسائل الحاملة لقيمٍ ثقافيّة واجتماعيّة وروحيّة...، فقد تتمظهر- بالتّالي- في صُوَرٍ من الكينونة والتّجسُّد وفي قوالب من التّعبير مختلفة ومتباينة الأجناس، مثلها في ذلك مثل غيرها من النّصوص والرّسائل، فلقد تكون مكتوبةً، أو تكون مسموعة أو مرئيّة. وأيّاً كانت صورتُها: عملاً مكتوباً، أو منطوقاً، أو بصريّاً يتوقّف تأثيرُها على جودة صنعتها، وهذا هو الشّرط التّحتيّ لنفاذ محمولها في متلقّيها.
ما من شكٍّ في أنّ سعة الاتّصال والتّفاعُل العامّ مع السّرديّات تقرِّره الكيفيّةُ التّعبيريّة التي تتجلّى فيها رسائلُها المحمولة، وبيانُ ذلك أنّها كلّما عرضَت نفسها في صورةِ مسموعاتٍ ومرئيّات، كان حظُّها من الانتشار والتّداوليّة أَظهرَ وأوسعَ - لِمَا في وُسْع وسائط السّمع والصّورة أن توفِّرَه من إقبالٍ جماعيّ على الموادّ المعروضة (خاصّةً في عصر النّظام السّمعيّ- البصريّ هذا الذي نعيشه)-، لكنّ كثيراً ممّا يمكن تقديمُه منها في شكْلٍ مسموعٍ ومرئيّ لا يَعْزُب أمرُه عن أن يكون مادّةً مكتوبةً في الأساس، وهذا ممّا يفرض عدم التّهوين من قدْر السّرديّات المكتوبة وقدرتها على الانتشار في الجمهور الأوسع.
مع ذلك، مَن منّا سيجادِل في أنّ سعةَ تداوُل المادّة المكتوبة ليس مَأتاها، في هذه الحال التي نتكلّم عليها، من شدّة إقبال النّاس على قراءتها، بل من جاذبيّةٍ لها حين صارت مادّة مسموعة أو مرئيّة؟ هكذا، إذن، يُؤْذن انتقالُ السّرديّات المكتوبة من حيِّز المقروء إلى حيِّز المسموع والمرئيّ ببدايةِ طفرةٍ تداوليّة لها.
السّرديّة المكتوبة تكون، هي نفسها، من نوعيْن: سرديّة مكتوبة بلغةٍ عالِمة (فصحى)، وأخرى مكتوبة بلغةٍ عاميّة. من البيّن أنّ الكتابيَّ في الحالة الأولى صميميّ ومؤسِّس، بمعنى أنّه قَوام السّرديّة: مادّتُها وصورتُها في آن. أمّا في الحالة الثّانية فالمكتوبُ لاحقٌ ووسيط وليس من طينةِ التّكوين، حيث مبْنى السّرديّة، هنا، على الشّفويّ الذي به يُصَاغ نصُّها قبل أن يُصَبَّ هذا النّصّ في خطابٍ مكتوب/ مقروء، ثمّ مسموع أو مرئيّ.
حين تُحْمَل سرديّةٌ مّا على لغةٍ عاميّة أو على نظامٍ من التّعبير الشّفويّ، يكون حظُّها من الفُشُوّ والانتشار والجماهيريّة أعلى من سرديّة مكتوبة (على نظامٍ كتابيّ أو مكتوب)، لأنّ جمهور القرّاء نخبويّ في المعظم من المجتمعات إن قورِن بجمهور مَن لا يملكون سبيلاً إلى القراءة. هكذا تعثر السّرديّات، المنتقلة بين النّاس شفاهةً، على حاملٍ فعّال لها في النّظام السّمعيّ-البصريّ، حيث تلتقي فيه، في آن، قابليّةُ السّرديّة الشّعبيّة/الشّفويّة للجماهيريّة وجماهيريّةُ الوسائط التي تخاطب حاسّتيْ السّمع والبصر ومنهما تنفُذ.

[email protected]

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق