شرط أن تصبح أمريكا عظيمة - ستاد العرب

0 تعليق 0 ارسل طباعة تبليغ حذف

د. محمد السعيد إدريس

منذ أن جعل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب شعار «لنجعل أمريكا عظيمة مجدداً» عنواناً لحملته الانتخابية، وهو الشعار الذي تحول إلى جماعة سياسية «شعبوية» تحمل الاسم نفسه واختصاره «ماغا»، لم يعر كثيرون اهتماماً لمدى جدية هذا الشعار عند الرئيس ترامب عقب فوزه في الانتخابات الرئاسية، كما لم يكترث كثيرون أيضاً بالتساؤل عن الكيفية التي سيتبعها ترامب لجعل أمريكا عظيمة، لكن لم يتصور أي أحد أن جعل أمريكا عظيمة مجدداً يمكن أن يرتكز على مقومات ليست لها أية علاقة ب «العظمة».
لم يتوقع أحد أن يكون جعل أمريكا عظيمة عبر التوسع على حساب الدول الأخرى، واستخدام القوة الأمريكية لتحقيق أهداف هذا التوسع.
فقد بادر الرئيس ترامب بطرح أجندة عمل لجعل أمريكا عظيمة مجدداً، أقل ما يمكن أن توصف به أنها «عودة لسياسات الإمبريالية» في القرن الحادي والعشرين، حيث ترهن التقدم الأمريكي المأمول بالسيطرة على ثروات الأمم والشعوب الأخرى، على نحو ما فعلت الإمبراطوريات العالمية الكبرى في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وهي الإمبراطوريات التي أسقطتها ثورات التحرر الوطني في القرن العشرين.
فقد تضمنت أجندة ترامب لجعل أمريكا عظيمة مجدداً التهديد بالاستيلاء على «قناة بنما» وجزيرة غرينلاند، دون استبعاد الخيار العسكري لتحقيق ذلك، كما تضمنت التلويح باستخدام القوة الاقتصادية الأمريكية لإجبار كندا على أن تصبح «ولاية أمريكية» جديدة، وتضمنت أيضاً تغيير اسم «خليج المكسيك» إلى «خليج أمريكا». ولتأكيد جدية ذلك فاجأ ترامب كندا والمكسيك بإعلان عزمه على فرض رسوم جمركية جديدة بنسبة 25% على كل البضائع التي تدخل الولايات المتحدة من البلدين.
مخاوف هذا التوجه لا تقتصر على عملية الاستيلاء بالقوة على أراضي الغير لجعل أمريكا عظيمة، بدلاً من أن يركز على استنهاض أمريكا من الداخل علمياً وتكنولوجياً واقتصادياً وثقافياً لجعلها «أمة عظيمة»، قادرة على إبهار الآخرين وتقديم «النموذج القدوة» للبناء الحضاري المتجدد، المخاوف تتزايد إذا ما عرفت الأسباب والدوافع التى جعلت ترامب يربط بين جعل أمريكا عظيمة مجدداً وبين السعي للاستيلاء على ما أعلن عزمه الاستيلاء عليه. فالواضح أن ترامب حريص ليس فقط على أن تستأثر الولايات المتحدة بثروات تلك المناطق، بل إنه يريدها كضرورة للمنافسة والصراع على الزعامة العالمية مع كل من الصين وروسيا، وخاصة منطقة القطب الشمالي، في ظل التحولات المناخية الجديدة التي تزيد من ذوبان الجليد في هذه المنطقة، ما يمكن من فتح ممرات ملاحية جديدة.
لم يتوقف الأمر على ذلك، بل إن ترامب قام عقب الانتهاء من حفل تنصيبه رئيساً بالتوقيع على عشرات القرارات التنفيذية التي يمكن أن يكون لها تأثيرات عميقة في الأنظمة المأخوذ بها في الولايات المتحدة، منها قرارات لنقض عشرات من السياسات التي اعتمدها الرئيس السابق جو بايدن، وتجميد عدد من التشريعات الفيدرالية، والعفو عن نحو 150 من أنصاره المتهمين باقتحام مبنى الكونغرس (الكابيتول) في يوم تنصيب الرئيس بايدن (2021/1/6)، ناهيك عن ارتكاب ما سمى ب «مجزرة الإقالات» لما يقدر بنحو 1000 موظف في إدارة بايدن السابقة، بينهم شخصيات كبيرة مرموقة، وهي المجزرة التي اعتبرت «انتقاماً» من شخص جو بايدن وكبار موظفيه.
لم يتوقف الأمر على ذلك، بل امتد إلى التزامات أمريكية خارجية تكشف إلى أي مدى يحرص الرئيس الجديد على إظهار عدم اكتراث الولايات المتحدة بالتزاماتها مع الآخرين، كشرط لتكون «عظيمة». فقد قرر الرئيس ترامب الانسحاب من منظمة الصحة العالمية، والانسحاب من «معاهدة باريس للمناخ»، جنباً إلى جنب مع اهتمامه بإطلاق عمليات التعدين على نطاق واسع، واستخراج النفط والغاز والمعادن في ألاسكا، في اتجاه معاكس تماماً لما قرر العالم أن يقوم به لمواجهة «الكوارث المناخية».
الملفت هنا أن مشروع ترامب لجعل أمريكا عظيمة مجدداً، على هذا النحو، يأتي مناقضاً لما سبق أن أعلنه من عزم على إنهاء الحروب والتركيز على تحقيق السلام والرخاء. فسعي ترامب للسيطرة على جزيرة غرينلاند هدفه مواجهة الصين وروسيا في القطب الشمالي، وهو ذات الهدف الذي يسعى لتحقيقه من السيطرة على «قناة بنما» التي يرى أنها أضحت مركزاً للنفوذ الصيني، وأن الولايات المتحدة تدفع ضرائب طائلة للسفن الأمريكية التي تعبر تلك القناة.
مجمل تلك القرارات والتطورات تؤكد معنى أضحى مخيفاً للآخرين، الأصدقاء قبل الأعداء، من مضامين وتوجهات مشروع ترامب لجعل أمريكا عظيمة مجدداً وهو أنها تسعى لتكون عظيمة على حساب الآخرين ومصالحهم وحقوقهم دون تمييز بين عدو وصديق.

[email protected]

أخبار ذات صلة

0 تعليق