يحيى زكي
هل يمكن التأريخ للعالم من خلال الطعام؟ يقول المؤرخ أندرياس فيستا في كتابه «عشاء في روما»: «يوجد قدراً أكبر من التاريخ في كل شريحة لحم ضأن أكثر من مبنى الكولوسيوم»، هنا لا يختط فيستا لنفسه توجهاً جديداً في معالجة التاريخ ورصد وقائعه، لكنه ينتمي إلى حقبة بدأت منذ سنوات تبحث عن المفردات البسيطة والتي ربما لا تخطر لنا على بال ونحن نتأمل التاريخ وأحداثه.
لقد انتهت الأفكار الكبرى المفسرة للتاريخ، ولم يعد هناك من مجال للحديث عن دور الأفكار أو تغير البنى الاقتصادية أو الصراع الطبقي، أو حتى دور الفرد، لم تعد كل هذه الأطروحات مؤثرة أو ذات بال في مدارس تاريخ ما بعد الحداثة التي لا تلتفت كثيراً إلى الرؤى الكلية عند التعاطي مع العالم والأشياء.
لا يقتصر الأمر على التاريخ وحسب، لكن هناك مسألة تطور الإنسان نفسه، تلك المسألة الحساسة التي نتج عنها الصراع بين تيارات عديدة خلال مرحلة الحداثة، حيث كانت هناك أطروحات مفسرة لذلك التطور، منها الفكري ومنها الاجتماعي، وحتى التطوري النابع من نظرية داروين بشقيها العلمي والاجتماعي، كان بإمكانك أن تتجول بين من يقول لك إن تأسيس المجتمع كان لحظة فاصلة في بناء الحضارة والمدنية، ومن يذهب إلى أن الحرب بحاجاتها إلى التخطيط والتدريب والتضامن طورت تفكير الإنسان، ومن يتمسك بلحظة الثورة الزراعية بوصفها الفيصل في ذلك التاريخ الطويل.
الآن هناك من يقول لك ببساطة أن الطهي كان الفيصل في تطور الإنسان، ويورد عشرات الحجج والبراهين المؤيدة لوجهة نظره، فالطهي جعل الطعام أكثر ليونة وأسهل هضماً، وجعل الإنسان يستفيد منه أكثر من الطعام النيء، الأمر الذي جعل الدماغ البشري يتضخم أكثر من بقية الثدييات، كما أنه منح البشر وقتاً أكثر مما تقضيه كل الثدييات الأخرى في مضغ وتناول الطعام. هذا الوقت استغله الإنسان في أشياء أخرى كانت اللبنات الأولى في بناء الحضارة، كما أنه أسهم في تقسيم العمل بين الرجل والمرأة، وهكذا تمضي مع حجج وبراهين تدفعك في النهاية إلى التسليم بأن الحضارة الإنسانية كانت ابنة الطهي.
هذه الأطروحات التاريخية الجديدة نتاج عصرها، ومرآته، وفيه للمناخ الأيديولوجي السائد، فهذا هو المطلوب في الوقت الراهن، أن لا توجد أطروحات كبرى توحد مجموعة من البشر خلف أفكار معينة، فالليبرالية الجديدة ورديفيها العولمة والتكنولوجيا الحديثة لا يمكن لهم أن ينتعشوا وينتشروا ويهيمنوا على البشر في ظل وجود أفكار موزونة مضادة. لا يمكن في ظل ذلك التسطيح المنظم الذي يجري للفرد أن يُقدم له نموذجاً لشخصية إنسانية مؤثرة صنعت التاريخ أو غيّرته، ولا يمكن لفضاء تتوحش فيه قوى السوق المعولم أن تُصدر أفكاراً عن أي صراع طبقي أو تحول اقتصادي جذري، ولا يمكن أن ينتشر تفسير جدي للتاريخ والعالم، فالواقع الجديد لا بد أن يكون أحادياً وساذجاً وينطوي على أكبر قدر من الخفة والتفاهة.
0 تعليق