27 يناير/كانون الثاني 2025، يوم للحاضر وللتاريخ، يتعلم منه اليوم من يريد أن يستوعب الدرس، أن إرادة الفلسطينيين أقوى من أية قرارات سياسية وأية مخططات تهجيرية، بل وأقوى من كل أسلحة الفتك والدمار التي أنتجتها مصانع العالم واستخدمتها إسرائيل، هو درس يؤكد أن الضعف يمكن أن ينتصر على القوة، وأن الإنسان الأعزل صاحب الحق يستطيع بإرادته أن يهزم جموح الساسة وجشع الحكومات وبطش الجنرالات.
هو أيضاً يوم سيتباهى به الأحفاد ويذكرون صمود آبائهم على أرضهم. ما تابعناه الاثنين الماضي على الشاشات لمئات الآلاف من الفلسطينيين العائدين من جنوب غزة إلى شمالها شكّل الطوفان الحقيقي لحماية الهوية والأرض، إنه طوفان استعادة الحياة والحق والأمل، طوفان لم تصنعه فصائل مسلحة ولا جماعات مؤدلجة ولا أصحاب مصالح ولكن صنعه شعب متمسك بأرضه ومتشبث بجذوره ومعتز بهويته، شعب تحدى الموت وصمد في مواجهة آلة الحرب، تحمَّل الموت، الجوع، والعطش، لم يكسره الحصار ولم يهزمه الدمار.
أجبروا الفلسطيني على ترك منزله بالقصف والقتل والتهديد والوعيد، متوهّمين أنه سيرضخ ويتخلى ويهاجر، استجاب وترك البيت مع ما تيسّر له من الأمتعة، ولكن من دون أن يتخلى عن إرادة العودة، انتقل من منطقة إلى أخرى خوفاً على نفسه وعلى أولاده، نام في العراء وهو يراقب تحركات الدبابات والمدافع وحركة الطيران ويتابع التهديدات والتحذيرات حرصاً على النجاة.
عاش 15 شهراً وهو لا يجد لنفسه مستقراً آمناً، ورغم كل هذه المعاناة لم يتخلَّ عن حلم العودة، وعندما أعلنوا عن هدنة هلّل رغم أوجاعه وأحزانه، وانتظر الفرصة للعودة إلى البيت، عاد إليه وهو مدرك أنه صار ركاماً، وأنه بلا سقف ولا جدران ولا أثاث، ورغم ذلك عاد إليه ليعيش على أنقاضه وفي العراء، على أمل القدرة على إعادة البناء واسئناف الحياة مرة أخرى.
حرب ال 15 شهراً لم تنتصر فيها إسرائيل، ولم تنتصر فيها الفصائل، ولم تنتصر فيها القوى الداعمة لشطب الفلسطينيين من الخريطة العالمية، إنما انتصر فيها الشعب الفلسطيني، انتصر من دون سلاح، انتصر متسلحاً بإرادة البقاء واليقين بأن المستقبل له، يدرك أن من مات فقد مات، وأن من عاش فلن يكون له حق الحياة سوى على أرض الأجداد والذكريات والهوية.
المعاناة التي يعيشها الفلسطيني ليست وليدة اليوم ولكنها تعود إلى 77 عاماً مضت، الأجداد والآباء عاشوها من قبل، ومكتوب على الأجيال الحالية أن تعيشها وتتقبلها، وأن تتعلم الدرس من التاريخ، فمن خرج من بيته حاملاً معه مفتاحه على أمل العودة لم يسمح له بالعودة، ، ولذا كان المشهد العظيم الذي رسمته الإرادة الفلسطينية الأسبوع الماضي وهي تزحف من الجنوب باتجاه الشمال.
لم تكن الحرب الطويلة التي شنتها إسرائيل على قطاع غزة هدفها فقط الرد على «طوفان الأقصى» الذي حدث يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، ولم يكن الهدف منها تحرير الرهائن الإسرائيليين كما زعموا، بل الهدف إجبار الفلسطينيين على الخروج من غزة إلى سيناء المصرية، وأيضاً جميع الحروب التي خاضتها والتي ستخوضها إسرائيل هدفها هو تهجير الفلسطينيين والتوسع إلى خارج الأرض الفلسطينية.
وخطط التهجير معلنة منذ عام 1949، وتتجدد كل بضعة أعوام، وجميعها فشل بفضل الإرادة الفلسطينية والإصرار العربي على عدم تصفية القضية، ولذا طالت الحرب الأخيرة وكانت الأشرس قتلاً وتخريباً وتدميراً على أمل إجبار الفلسطينيين هذه المرة على الهجرة، ولعل الردّ الأبلغ على طلب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من مصر والأردن استقبال سكان غزة «لفترة مؤقتة أو طويلة... لتطهير المنطقة برمتها»، كان مشهد عودة مئات الآلاف إلى شمال غزة فرحين وهم يصدّرون للعالم صورة الصمود والتحدي، لم تمنعهم كلمات ترامب ولا رغبات نتنياهو ولا استفزازات بن غفير أو سموتوريتش ولا طموحات إسرائيل، وكان كل ما يشغلهم هو العودة إلى ديارهم والتشبث بأرضهم، محطمين كل دعوات التهجير ومساعي الإبادة.
لا أحد يعلم ما إذا كان وقف إطلاق النار سيدوم أم لا، فالأمر يتعلق بالإرادة الإسرائيلية، ولكن الكل يعلم أن هذه الحرب لن تكون الأخيرة، وما يؤكد ذلك نقل إسرائيل الحرب من غزة إلى الضفة، وليت إسرائيل وداعميها يدركون أن مشهد العودة الكبرى يؤكد للعالم أن الفلسطينيين لن يتخلوا عن أرضهم، ولن ترهبهم الآلة العسكرية الغاشمة، ولن تنال من عزيمتهم عمليات الإبادة ولا التجويع ولا الحصار، وما حدث في 1948 لن يتكرر، والحل الوحيد لضمان أمن إسرائيل وأمان الفلسطينيين هو إقامة الدولة الفلسطينية والاستجابة لقرارات الشرعية الدولية والكف عن الطموح الجامح الذي يهدد استقرار المنطقة.
0 تعليق