دردشة في فعل وقع - ستاد العرب

0 تعليق 0 ارسل طباعة تبليغ حذف

هل تتعامل عادةً بقفازات مع المصطلحات السياسيّة؟ شديد الحيطة والحذر، يدجّج ذهنه سلفاً بالتروس والدروع، خشية أن تقلب له ظهر المجنّ، فيجنّ. المفارقة هي أن المفردات المتداولة في السياسة والدبلوماسية، غالباً ما تتجرّد من مدلولاتها اللغوية، وترتدي أثوابها الاصطلاحية الحربائية.
منذ بداية العقود الكيسنجريّة، غدت عبارة «السياسة الواقعية» كثيرة الجريان على الألسنة، أكثر من ذي قبل. في الواقع، يحسبها الظامئ إلى القيم السياسية ماءً، حتى إذا جاءها وجدها سراباً أو ضباباً، تقول هل من ضياع بعيد؟ شائع بين الدبلوماسيين أن الكلمات «مطبّات». هذا دليل آخر: تكون لديك حالة مرضيّة مستعجلة، وأنت تبحث عن مطبّ، وإذ بك تفاجأ بأنه مطبّ.
الواقعية ليست بهذه السهولة، فأنت تكاد تشق قميصك إذا قال لك أحدهم: إنك لست إنساناً واقعيّاً. تراه جرح معنوياتك وكبرياء مداركك. في حين أن الواقعية السياسية التي «تألقت» في سني كيسنجر وبرجنسكي، كانت في قاموس «كليلة ودمنة» تعني: حصة الأسد لمكانة الأسد وقوّته وحقه في التفرّد بالهيمنة على أدغال جوزيب بوريل والحديقة على السواء. الثعلب هنري كان على ما يبدو غير ميّال إلى الانتماء إلى ماكيافلي، الذي صار سيّئ الذكر، وكان يرى مرجعيته في الأمير الدبلوماسيّ النمساوي ميترنيخ. والمرجعيات أيضاً سواقٍ.
اليوم، حتى المشاهد القاسية التي عاشتها شعوب شتى شرقاً وغرباً، جرّاء الواقعية السياسية الإمبراطورية، باتت على أيّامنا حلماً بعيد المنال. الرئاسة الترامبية الثانية قلبت المفاهيم السياسية والدبلوماسية، عاليها سافلها، في مدّة قياسيّة، على نحو غير مسبوق. كأن هذا العهد الجديد يقول: ما الحاجة إلى القوانين والأعراف والمواثيق والاتفاقيات، ما دام في إمكان القوة أن تضطلع بكل تلك البروتوكولات. يُروى أن صاحب البيت الأبيض استقى هذا النهج النظري من الفن، الجاز تحديداً، فقد كان هذا التيار الموسيقي ارتجالياً في سنواته الأولى، لهذا عارضه الموسيقيون الكلاسيكيون في القارتين الجديدة والعجوز. لكنه اكتسح الجهات الأربع. الارتجال المرفوض صار قانوناً. من يدري، إذا استهان العالم بأبعاد الانعكاسات وتداعياتها، فقد تصير كليات العلوم السياسية في العالم سنة 2050، تغيّر مناهجها، وتدرّس بدلاً من النظريات والمذاهب السياسية: الواقعية السياسية لدى كاليغولا، هولاكو... وأنه في قديم الأيام كانت للناس خرافات اسمها القانون الدولي، السيادة، حرمة الأوطان، حق تقرير المصير...
لزوم ما يلزم: النتيجة اللغوية: على علماء العربية أن يستدركوا الأمر، فمشكلة الواقعية في العربية أن الواقع مشتق من فعل وقع.

[email protected]

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق