محمد خليفة
إن حقائق القوة، لا الشرعية الدولية، هي المدخل لفهم النظام العالمي الحالي، من دون إدراك لقانون التاريخ القائل إن كل ما يعتمد على القوة يفني بفنائها، وأية قوة، عسكرية أو اقتصادية، عندما تصطدم بالحق فإنها في طريقها إلى الزوال.
إن الولايات المتحدة لم تُحسن قراءة التاريخ عندما اتخذت العقوبات سلاحاً تشهره في وجه الدول المعادية أو المخالفة لها، وساعدها التحكم في النظام المالي العالمي عبر شبكة داخلية عالمية، تتمثل في نظام «سويفت» للتحويلات المالية، وبالتالي منع أي دولة، تقع تحت طائلة العقوبات، من تحويل أو استقبال أية مبالغ مالية من دول أخرى، ما يمنع تلك الدولة من تمويل مستورداتها التي تحتاج إليها لنموها وازدهارها، ما يؤدي إلى دخولها في مستنقع الخراب والدمار. وقد ألحقت تلك العقوبات أضراراً كبيرة بشعوب عدة حول العالم.
وقد كانت العقوبات الاقتصادية الأمريكية تطال في الماضي دولاً غير صديقة للولايات المتحدة، يطلقون عليها «محور الشر»، لكنها اليوم، أصبحت تطال الأصدقاء والحلفاء مثل: كندا والمكسيك. فقد فرضت إدارة الرئيس دونالد ترامب رسوماً جمركية بنسبة 25% على الواردات من كندا والمكسيك، ثم تم تعليقها لمدة شهر، وتعريفة جمركية إضافية بنسبة 10% على الواردات من الصين. وقد قدمت تلك الإدارة مسوغات لفرض تلك الرسوم الجمركية الكبيرة، حيث قالت: إن السبب وراء ذلك هو الهجرة غير الشرعية، ومادة الفنتانيل المخدرة التي يتم تهريبها من تلك الدول إلى الولايات المتحدة من خلال شبكات التوزيع غير المشروعة، قد خلق أزمة صحية عامة.
وقد فشل المسؤولون الصينيون في اتخاذ الإجراءات اللازمة لوقف تدفق المواد الكيميائية الأولية إلى العصابات الإجرامية المعروفة، ووقف غسل الأموال من قبل المنظمات الإجرامية العابرة للحدود الوطنية. ومنها منظمات الاتجار بالمخدرات المكسيكية. وقد وفرت العصابات المكسيكية ملاذاً آمناً في تصنيع المخدرات وتهريبها، كما تتخذ بعض هذه العصابات من كندا مقراً لها.
وقد فرض الرئيس ترامب في فترة ولايته الأولى رسوماً جمركية على الصين بقيمة 15% وزاد عليها الآن 10% لتصبح 25%، وقد ألحقت تلك الرسوم في السابق خسائر كبرى بعدد من الشركات الصينية، وتلك الخسائر سوف تتضاعف مع زيادة نسبة الرسوم اليوم. أما بالنسبة إلى كندا والمكسيك فهما حليفتان للولايات المتحدة، وتوجد بين هذه الدول الثلاث معاهدة أو اتفاقية «نافتا» للتجارة الحرة التي كانت تجعل أسواق هذه الدول واحدة. وخلال ولايته السابقة تم تعديل اتفاقية «نافتا»، واتفقت الدول الثلاث «الولايات المتحدة، وكندا، والمكسيك» على اتفاقية جديدة تحت اسم «cusma» والتي تم التصديق عليها عام 2020. والهدف من الاتفاقية هو تعزيز العلاقات الاقتصادية بين الأطراف الثلاثة مع الحفاظ على الفوائد التجارية التي جلبتها اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية «نافتا».
لكن ربما رأت إدارة ترامب، اليوم أن اتفاقية التجارة الحرة تلك لم تعد تلبي مصالح الولايات المتحدة، وأن الواردات من كندا والمكسيك تؤثر سلباً في الاقتصاد الأمريكي، ولذلك قامت تلك الإدارة بفرض تلك الرسوم الجمركية العالية تحت مسوغات واهية تتعلق بالهجرة غير المشروعة وتحت مسوغ مخدر الفنتانيل.
من ناحية أخرى أعلنت كندا والمكسيك المعاملة بالمثل، قبل أن يتراجع ترامب، ويرجئ تنفيذ القرار شهراً، فقامت بفرض رسوم على الواردات الأمريكية بنفس النسبة، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، إذ انتشرت بقوة في كلا البلدين حملات لمقاطعة البضائع الأمريكية، واستبدالها بغيرها من المنتجات ما زاد من المخاوف من تراجع الاقتصاد الأمريكي وتفاقم المعاناة. قال ترودو، رئيس الوزراء الكندي، في تغريدة له: «لقد أجريت للتو مكالمة جيدة مع الرئيس ترامب»، وأشار إلى أن الإيقاف المؤقت للتعريفات الجمركية كان رداً على موافقة كندا على استهداف تدفق مادة الفنتانيل القاتلة عبر الحدود إلى الولايات المتحدة. وقال: إن كندا قدمت التزامات جديدة لتعيين مسؤول عن الفنتانيل من بين إجراءات أخرى. وبينها إدراج الكارتلات كإرهابيين، وضمان مراقبة الحدود على مدار الساعة طوال أيام الأسبوع. كما سيتم إطلاق قوة هجومية مشتركة بين كندا والولايات المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة والفنتانيل وغسل الأموال. وسيتم تخصيص مبلغ 200 مليون دولار لهذه الغاية. كما أعلنت رئيسة المكسيك كلوديا شينباوم، أن فرقاً مكسيكية وأمريكية مشتركة قد بدأت العمل على قضايا الأمن والتجارة. وقامت بنشر 10 آلاف جندي مكسيكي لمراقبة الحدود بين البلدين.
إن غرور القوة الذي يحكم سياسة الولايات المتحدة في تعاملها مع الخصوم، أو الحلفاء، قد يفجر الوضع من الداخل، فهذه الدول لن تقف مكتوفة الأيدي، وبالتالي ستتعامل بالمثل، كما حدث مع كندا والمكسيك وتلميح فرنسا للرد بالمثل إن فعلت الولايات المتحدة ذلك مع أي دولة من دول الاتحاد، ما سيؤثر سلبًا على الاقتصاد الأمريكي الذي لن يتحمل مزيداً من الصدمات.
[email protected]
0 تعليق