د. نسيم الخوري
هكذا تنزلق غزّة ومعها بقايا فلسطين فوق لسان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الثاني، وخلفه المدفأة المتأججة في البيت الأبيض! غادر ولايته الأولى ناقلاً السفارة الإسرائيلية إلى القدس، وباشر ولايته الثانية، معلناً ما كان هاجسه، بل حلمه منذ ولايته الأولى مسكوناً بالفكرة التي لطالما كان يصرّ عليها ستيف بانون صديقه ومستشاره الملقّب بكونه من أقوى الرجال في العالم والقائلة: «لندع الضفة الغربية للأردن وغزّة لمصر». ما نسمعه اليوم ليس جديداً.
هكذا ضاع أو سقط موضوع الدولتين إذن مشروعاً منتظراً تشقّق واصفرّ طويلاً عبر ألسنة زعماء العرب وممثلي العرب وقرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن والمنظمات الدولية ليحلّ بريق الزجاج يوماً وناطحات السحاب في غزّة مع ترامب الثاني القائل، بل الحامل منذ دخوله الثاني شمعةً على طوله تشي بنقل بقايا الفلسطينيين في غزة نحو الأردن ومصر.
لا جديد في تكرار التاريخ بين ترامب الأول والثاني.
يمكنني الاسترسال بوصف الرئيس دونالد ترامب الثاني بأنّه فريد، لكأنّه على اسم جدّه لأن من يتابع المكتوب في الرؤساء الجمهوريين منذ جونسون حتى ترامب تصدمه غياب الملامح الجمهورية حزباً وسلوكاً وانتماء، بقدر ما تختزن أو تجمع الجمهورية من الصفات الحزبية الديمقراطية الحرّة والجاذبة إلى أبعد الحدود. لا تعنيه الضربات. لا يقبل النصائح قط، وقد يثور في وجه الناصح. لا يعنيه منذ ما قبل دخوله البيت الأبيض سوى ما يشبه الارتجالية في تعميم القرارات للدولة العظمى.
وترطيباً لذاكرات القرّاء نذكّر بأنّ دونالد ترامب تولى زمام الولاية الأولى في 20 يناير/ كانون الثاني 2017. حاولت، في هذا المجال، العودة إلى المئة يوم من إدارة ترامب الأوّل لأنقل عن ستيفن بانون كبير مستشاريه الاستراتيجيين إلى جانبه قبل فوزه بالبيت الأبيض ب 3 أسابيع وكان لازمه منذ مايو/ أيّار 2016 في منزله في بيفرلي هيلز وبقي إلى جانبه في البيت الأبيض أكثر من مئتي يوم، لينسحب بعيداً منه فور تعيين ترامب الجنرال الصاعد جون كيلي في منصب كبير موظفي البيت الأبيض.
هكذا يكتب مايكل وولف فاتحاً صفحات كتابه Fire and Fury أي نار وغضب، الصادر في ال 2018 الذي يجعلني أقول بعدم وجود فروقات بين الرئيسين أو النسختين ترامب الأول والثاني. يبدو الثاني مسكوناً بالإعلام والإعلاميين وألذّ لحظاته عندما يوقّع على قراراته بالخط الأسود العريض، فتصطف أمامه الشاشات ليغرق عيون العالم بشخصه، عاشقاً للارتجال ولا يلتزم البرامج المعهودة التي تابعناها عبر أسلافه وخلفه، إذ يبدو للجميع حازماً ثائراً آمراً لا مجال للمناقشة، وليس من مشقّة لا يحلّها شفاهياً حتى ولو كانت من دون أية قضية، أو من أعقد القضايا التاريخية مثل فلسطين ومستقبل الفلسطينيين، بعد ما شاهده وعاناه العالم والعيون العالمية في غزّة ولبنان، إذ تتدفق التصريحات لديه بعفوية صارمة، ومن دون قياس مدى هول وقعها على السامعين والمشاهدين في العالم.
ونسأل: من يرشدنا اليوم إلى نسغ الحضارة أو معانيها أو هويتها أو يأخذنا إلى تلك الدولة، أو مجموعة الدول الكبرى التي يمكنها اختصار أو اختزان الحضارة؟ ألا يحقّ لنا القول إنّ هذا الكلمة قد أُفرغت من مضامينها وصارت وهماً معاصراً، كما صار وهماً اجترار الكلام فيها وعدم تعريتها؟
هذا اللون من الأسئلة يأخذنا مباشرةً إلى العراء الإنساني، مشدودين أو مشدوهين للتفكير بالحضارات الهندية القديمة والفرعونية وبلاد الرافدين والإغريقية والرومانية البيزنطية. ويأخذنا أيضاً إلى تقفّي معالم الحضارة المسيحية الأوروبية المدموغة بالحضارة.
يفترق العالم اليوم كثيراً عن فلاسفة تلك الحضارات وأنظمتها وشعوبها، بعدما فُقد الجوهر واكتست عصورنا بالثقافات السريعة، وأسوق الكلمة هنا بمعناها الفرنسي أي بطرائق المأكل والملبس والنوم وأساليب الحياة الاجتماعية التي تتمايز، وستبقى تتمايز بالشكل والعقل بين المجتمعات البشرية المتناسلة والمتقاربة في عصور الفضاء والذكاء المصطنع أو الاصطناعي، لكأننا بشر وأنظمة تحيا في لحظات الخلق والاكتشافات الأولى الكبرى.
كان ابن خلدون (1406- 1332) الأب الروحي القائل بسقوط الحضارات في «المقدّمة»، معتبراً أنّ غاية العمران هي الحضارة والترف، وإذا بلغ غايته سقط. ما أجمل هذا الربط بين الحضارة والترف؟
يمكنني أن أشدّ طرفي الحبل خلال 638 سنة بين ابن خلدون منذ ال 1377 والأستاذ الجامعي الكندي آلان دونو الذي نشر مؤلفه: «عصر التفاهة» في ال 2015، قائلاً بسقوط هيبة السلطات، بل سقوط البشرية في كوارث سببها من يشغلون زوايا مثلّث النظام بالسياسة والإعلام والفنون وخدمةً ذليلة لأهداف السوق العالمي. وفي المجال، أنهي مخطوطةً ستصدر لي بعنوان:«سقوط الحضارات فوق أرض النبوءات» فقد أصابت الحضارات معالم الشيخوخة.
[email protected]
0 تعليق