رياح التغيير النهائي - ستاد العرب

0 تعليق 0 ارسل طباعة تبليغ حذف

بغض النظر عن التصريحات المنتقدة من حول العالم لسياسات إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وموقفنا منها، لا شك في أنه نهج إذا استمر هكذا سيؤدي إلى «تغيير العالم» بدون مبالغة. سواء كان ذلك هدف ترامب وفريقه، أو مجرد ناتج جانبي، فالنتيجة تبدو منطقية. وإذا كنّا نعتبر تصريحات قادة الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين أنهم بحروبهم الأخيرة «يغيرون الشرق الأوسط» فيها مبالغة، فالواقع أيضاً أن المنطقة تتغير.
ربما رياح التغيير في منطقتنا بدأت الهبوب منذ سنوات، ما بعد نهاية الحرب الباردة، ثم الاجتياح العراقي للكويت مروراً بحركات مطلع العقد الماضي، وما خلفته من تغيير دول عن شكلها المعروف منذ الاستقلال إلى اضطرابات لم تنته بعد في دول أخرى.
منذ نهاية ثمانينات القرن الماضي، وانطلاق قطار العولمة خاصة اقتصادياً، والحديث لا يتوقف عن «نظام عالمي جديد»، يحل محل النظام ثنائي القطبية الذي ساد بعد الحرب العالمية الثانية بقيادة معسكرين: شرقي يقوده الاتحاد السوفييتي، وغربي تقوده الولايات المتحدة.
بدأ التغير بالنسبة للولايات المتحدة في الفترة الثانية من رئاسة جورج بوش الابن، مع توجه «فك الارتباط» مع العالم الذي ساد في فترة الحرب الباردة، وزاد مع نهايتها على طريق تسييد النموذج الأمريكي، متوازياً مع ريادة أمريكية كقطب واحد للعالم. مع العقد الأول من القرن الحالي، بدا ذلك أمراً ليس باليسير، وأن التغيرات الجديدة في علاقة الشمال بالجنوب، تفرض ابتكار سبل جديدة لبناء نظام عالمي، حتى لو كان متعدد الأقطاب، إنما تلعب فيه أمريكا دور قائد تلك الأقطاب.
لكن، بدء فك الارتباط الأمريكي مع العالم، جاء متوازياً مع وصول منحنى تراجع دور «المؤسسة»، أي الطبقة السياسية عموماً بمعناها الأشمل الذي يضم الحكومة وأصحاب المصالح والأعمال الرئيسيين والنخبة عامة – إلى قمته تقريباً، وبدء نزوله للأسفل.
لذا شهدنا تقلبات في الوضع الأمريكي، داخلياً وخارجياً، من فترتي أوباما إلى فترة ترامب الأولى ثم فترة بايدن الوحيدة. كان واضحاً من فترة رئاسة ترامب الأولى أنه يعمل على تجاوز المؤسسة، وإنفاذ سياسة حمائية تعتمد المصلحة الضيقة على حساب دور أمريكا مع الشركاء الغربيين وبقية العالم. وهو ما يقوم به الآن وبسرعة منذ اللحظة الأولى لتوليه مهام منصبه رسمياً.
تتسق سياسات ترامب الداخلية مع الخارجية، تحت شعار فضفاض هو «أمريكا أولاً»، بمعنى أن المصلحة الأمريكية مقدمة على أي شيء آخر، والمصلحة بالنسبة لترامب وفريقه، خاصة شريكه الأول الحالي الملياردير إيلون ماسك، تعني المال أولاً وقبل كل شيء. لذا، قام على الفور بإلغاء كل قرارات وقوانين فترة بايدن التي تكلف المليارات من برامج تشجيع التحول في مجال الطاقة نحو المصادر الصديقة للبيئة، وألغى كثيراً من مجالات الإنفاق الحكومي، بما في ذلك المساعدات الخارجية. حتى الانسحاب من منظمات دولية لها جانب مالي، إذ يعفي واشنطن من دفع مساهماتها – على سبيل المثال مساهمة أمريكا في منظمة الصحة العالمية هي الأكبر.
أما سياسة الرسوم والتعرفة الجمركية فهدفها في النهاية تقليل عجز الميزان التجاري الذي تعانيه أمريكا في تجارتها مع الخارج. حتى حديثه المتكرر عن عدم الدخول في حروب، يستهدف وقف أي إنفاق عسكري إضافي. بل أنه كلف ماسك الآن بمهمة مراجعة ميزانية وزارة الدفاع (البنتاغون)، بهدف تخفيضها، وإلغاء كثير من تعاقدات الوزارة مع الموردين المدنيين. وفي الأغلب ستستفيد شركات ماسك التي تعمل في مجالات لها علاقة بالبنتاغون من بعض التعاقدات بكلفة أقل.
يصعب التكهن بسيناريوهات التغيير المتوقعة، بالنسبة لأمريكا والعالم كله، نتيجة فترة حكم ترامب الثانية التي بدأت لتوها. إنما يمكن افتراض عدة احتمالات في ضوء ما أعلنه ترامب وفريقه في فترة الانتخابات، وبعد الفوز وما اُتُّخِذَ من قرارات حتى الآن. مع ذلك، من المهم الإشارة إلى إن «عدم اليقين» الذي يميز طريقة ترامب يجعل كل تفكير مستقبلي في غاية الصعوبة.
داخلياً، ستستمر فورة النشوة بسياسات ترامب التي تدغدغ مشاعر اليمين واليمين المتطرف وجمهور أمريكي عريض يرى أمريكا قوية بانفصالها عن العالم، وتقوقعها على نفسها. في المقابل قد تؤدي سياسات التقشف الفيدرالي، وإلغاء كثير من السياسات التي تشكل شبكة حماية اجتماعية للفئات الأقل حظاً إلى ردود فعل غاضبة.
حتى لو حدث السيناريو الأكثر شططاً بصعود معارضة داخلية قوية لترامب، فإن ذلك يعني احتمال المزيد من الضعف للإدارة، ما يقلل من عوامل قوتها في إنفاذ سياساتها. لن يكون ذلك بمنزلة تراجع يشجع على التفاؤل، بقدر ما يمكن أن يكون نذير خلل في أكبر قوة في العالم عسكرياً واقتصادياً ونفوذاً. وفي ذلك ضرر كبير على النظام العالمي نفسه، إذ لا توجد بعد قوة قادرة على ملء أي فراغ، يسببه اضطراب وضع أمريكا داخلياً.
أما خارجياً، فمن المتوقع استمرار سياسة العقوبات على الآخرين، ومحاولة زيادة نصيب أمريكا من المال الموجود في العالم. وسواء نجحت تلك المحاولات أم لا، فإنها في حد ذاتها تمثل أقوى موجة في رياح التغيير العالمي نحو نظم علاقات جديدة، قد تكون بداية التغيير النهائي نحو نظام عالمي جديد.

[email protected]

أخبار ذات صلة

0 تعليق