د. منصور جاسم الشامسي *
تعيش دولة الإمارات العربية المتحدة هذه الأيام حراكاً عالمياً نوعياً تنموياً بنائياً جمالياً بعقد القمة العالمية للحكومات في دبي، حيث أصبح تقليداً للسياسة الخارجية الإماراتية عقد هذه القمة المتميزة بشكل سنوي في إطار تأكيد صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيس الدولة حفظه الله، حرص دولة الإمارات على تعزيز دورها الفاعل في دعم التعاون والترابط التنموي الدولي وخلق رؤى تنموية مشتركة، وكذلك في إطار تأكيد صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم إمارة دبي رعاه الله، أن القمة العالمية للحكومات تُعزز مكانة دولة الإمارات كأهم ملتقى، ومنتدى عالمياً يجمع حكومات العالم، لأجل ترسيخ الحوار العالمي الإيجابي التنموي الهادف. بذلك، تمنح دولة الإمارات العالَم، بهذا التواجد الحكومي الوظيفي، طاقة حيوية وجودية فاعلة للعمل التنموي، وتعمل على ازدهاره.
في ظل هذا الملتقى التنموي ، والعُرس الحكومي، العالمي في دبي، تأتي أهمية رصد وتحليل شعار القمة المهم «استشراف حكومات المستقبل» بمعنى أن مناقشة نواحي وأبعاد وخطط التنمية الشاملة للدول والمجتمعات التي تضطلع بها الحكومات في واقعنا اليوم تُعد قاعدة فهم مهمة ننطلق منها لنعرف ونستشرف شكل المستقبل وشكل حكومات المستقبل. ولدى كافة الدول والمجتمعات مواضيع عدة، وتحديات متنوعة على كافة المستويات: في الحياة والكون والأعمال تتمحور حول مفهوم واحد مركزي، «التنمية» وما يرتبط بها، وتتفرع منها مفاهيم البناء، وإعادة البناء، وتحقيق التنمية الحقيقية، وخلق فرص الأعمال، وتحسين وتجويد الأعمال والتعليم وكافة الخدمات المقدمة، وصُنع وبَعث الجَمال الشامل، وهذا يتطلب منا، كأفراد ومواطنين وموظفين ومؤسسات ومجتمعات ودول وحكومات، تنمية قدراتنا ومهاراتنا «التنموية» تحديداً أي تلك التي تؤدي إلى تحقيق التقدم المنشود.
هذه الأنساق الكونية الحياتية الفردية المجتمعية المؤسساتية الدولية العالمية المحلية الإقليمية الحكومية وغير الحكومية وإن كانت متنوعة إلاّ أنها متكاملة ومتفاعلة ومترابطة في الواقع والعُرف، والمسار والمنهج التنموي والجَمالي يجمعها. فلكل خطة عمل استراتيجية حاضرة أو مستقبلية مضامين وأهداف جَمالية مرئية وغير مرئية. فحين نتحدث مثلاً عن تنظيم المدن وتحسين وتجويد الحياة، فهذا موضوع جَمالي في الأساس مادي ومعنوي، له مضامين وأهداف جمالية، ويدخل في إطاره «عِلم الجودة الشاملة»، فما هو إلاّ موضوع جَمالي في جذوره. لهذا تأتي أهمية تحديد «اللغة» المستخدمة بدقة، وتحديد «المصطلح» بدقة، حين نناقش مواضيع تنموية، فهناك الكثير من المفاهيم والنظريات والسياقات المستخدمة في العملية التنموية لابد من تحديد معانيها وحدودها بدقة متناهية مع كشف قواها التغييرية ومضامينها وطبيعتها وأهدافها وشروطها الجمالية. لهذا، لابد من تعزيز القُدرة على القراءة العميقة الشاملة الأفقية والرأسية للمواضيع والأشياء والشخوص والتحديات التي أمامنا، لنحصل على التعبير الدقيق، والاستدلال الصحيح، والتركيب، والتنظيم، والتحليل، والتصنيف، والتعليل، والتفكير النقدي (critical thinking)، وفهم الذوات، والمحيط، والعالم الخارجي، وكل ذلك يتم بمنهجية علمية.
لهذا، هناك أنساق وانتظامات تدخل في نطاق أعمال القمة العالمية للحكومات، نلمسها بشكل عام وتفصيلي، مثل: النسق الإبداعي، النسق السياسي، النسق الاجتماعي، النسق الاقتصادي، النسق الثقافي، النسق الصحي، النسق الزراعي، النسق الإداري، النسق التقني أو التكنولوجي، النسق المادي، النسق الواقعي، نسق السعادة، نسق المستقبل، النسق الجَمالي، النسق الروحي والمعنوي والأخلاقي. هذه الأنساق والانتظامات، يمكن الفصل بينها بشكل مؤقت وإجرائي، أثناء البحث والدراسة وجمع المعلومات ووضع الخطط، لكنها في الحقيقة والواقع هي متكاملة ومتداخلة ومتفاعلة، حيث إن الخطة الاستراتيجية الشاملة تجمعها كلها، سواء كانت هذه الخطة على مستوى ونطاق فردي أو مؤسسي أو مجتمعي، ومحلي وإقليمي وعالمي.
فالانتظام مهم بين كافة الأنساق، المذكورة آنفاً، وما يتفرع منها، وهذا متطلب للنجاح، فاجتماع القمة العالمية في دولة الإمارات، في مُجمله، يسعى إلى تحقيق سعادة الإنسان، ولذا، ينحو للإيجابية، يؤسس لشعور الإيجابية والتفاؤل لدى الإنسان، خاصة في مواجهة التحديات العالمية المعاصرة، كالحروب والأزمات.
إذاً، فقمة الحكومات العالمية تؤسس لنزعة حيوية، ترى العالم مترابطاً، متكاملاً، متكاتفاً، متصلاً، متحداً، رغم تنوعه البشري واختلافاته، وهذه هي «العولمة الحقيقية»، «عولمة الحكومات الرشيدة والحكومات الخَلاقة التي من خلالها نرى مُكونات ومضامين الجَمال، المرئي وغير المرئي، تكتنف العالم، لكنها بحاجة لكشف وبعث واحتواء ورعاية وإنماء، بشكل حقيقي، ومُحفز للإبداع الذي يمنحنا أدوات ووسائل علاجية للتحديات التي نواجهها في الحياة وهذا يشمل العمل الحكومي.
فالمواضيع المُتضمنة والمطروحة، في القمة، مهمة وضرورية وهي التي تتناول الحوكمة الفعالة والمسؤولية، والاقتصاد العالمي وتمويل المستقبل، ومرونة المدن ومواجهة الأزمات والمناخ، ومستقبل البشرية وتطوير القدرات، وتحولات الصحة العالمية، والآفاق المستقبلية للتوجهات الناشئة مثل الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا المدفوعة بالاستدامة، بحيث يتم ضبطها بمعايير وأطر وقواعد وأصول ومبادئ مُشتقة من علم الجمال، كعِلم تحقيق الجودة الشاملة، فنحن لا نتعامل مع علم الجمال بطريقة متشددة أو ضيقة الأفق تجعله محصوراً في نطاق كلاسيكي معين في الفنون أو أدوات الزينة، كما قد يتراءى للبعض، بل نشتق مِن عِلم الجَمال فضاءً وحالاً وواقعاً ممتداً من ذواتنا، ودواخلنا، وسلوكنا، وأعمالنا، إلى الأسرة، والمجتمع، والمؤسسات، والعالم، والكون، والحياة، وبناءً عليه يكون الحوار واللقاء والتشاور، بحيث تأتي الدراسة والبحث، ثم نضع الخطط، ويَحدث، بالتالي، الأثر والتغيير والفَرق والقيمة المضافة.
* باحث علمي - تنمية بشرية
[email protected]
0 تعليق