حسام ميرو
حذّر وزير الجيوش الفرنسية، سيباستيان لوكورنو، من «اندلاع حرب أهلية وشيكة في لبنان»، منضمّاً إلى قائمة من القادة والسياسيين في لبنان وخارجه، الذين تحدثوا صراحة أو تلميحاً عن مخاطر انزلاق الأوضاع في لبنان إلى حرب أهلية، ففي هذا البلد، الذي عرف حرباً أهلية بين عامي 1975 و1989، انتهت ب«اتفاق الطائف»، تبدو كل عوامل فشل الدولة حاضرة، وما أوضحته الحرب الإسرائيلية الأخيرة عليه، بشكل أكثر حدّة، هو مدى الانقسام السياسي الداخلي، ومستوى التباعد في الرؤى والمواقف بين الفرقاء السياسيين.
منذ مغادرة الرئيس ميشال عون قصر بعبدا في نهاية أكتوبر/ تشرين الأول 2022، ولبنان عاجز عن انتخاب رئيس جديد للجمهورية، وخلال عامين، بقيت حكومة تصريف الأعمال تدير دفة الشؤون الداخلية والخارجية، ضمن الحدود والصلاحيات المتاحة لها، بينما كانت الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والمعيشية للبنانيين تزداد حدّة وقسوة، مع توسّع طبقة الفقراء بشكل كبير، خصوصاً من يعيشون تحت خطّ الفقر، في الوقت الذي تمترس فيه كل طرف بموقفه السياسي، وغابت كلّ إمكانية لتقديم تنازلات، من شأنها أن تؤمّن الحدّ الأدنى المطلوب لتوافق وطني.
وعلى الرغم من كلّ مشكلات لبنان ما قبل الحرب، وعجزه عن تأمين شروط دعم المؤسسسات الدولية، المتمثّلة بإعادة هيكلة البنى والقوانين الإدارية، والحدّ من الهدر والفساد، جاءت الحرب الأخيرة، لتزيد وتعمّق من حدّة هذه المشكلات، فالتقديرات الأولية للخسائر المادية حتى الآن، فاقت مبلغ 20 مليار دولار، في بلد يعاني من تراكم في الدين العام، وصل إلى 180% من الناتج المحلي الإجمالي، وهي نسبة، تعدّ من بين أعلى النسب في العالم، في الوقت، الذي يعاني فيه لبنان، منذ سنوات، من نقص الاستثمارات الخارجية، نتيجة عوامل عدة، من بينها الأوضاع في سوريا، وأزمة المصارف في لبنان، والفشل السياسي، والصراعات الإقليمية، وغيرها من العوامل النابذة للاستثمار.
اليوم، هناك مطالب لبنانية وعربية ودولية، بتطبيق القرار 1701، الصادر في 11 أغسطس/ آب 2006، عن الأمم المتحدة، بعد حرب يوليو/تموز من العام نفسه، وذلك من أجل وقف الحرب الإسرائيلية على لبنان، وينصّ القرار على «نزع سلاح جميع الجهات المسلّحة في لبنان»، و«بسط سيطرة الجيش اللبناني في الجنوب»، وهما أمران لم يطبّقا منذ إصدار القرار، نتيجة خلل موازين القوى السياسية في الداخل، حيث لا إمكانية عملية للمؤسسة العسكرية اللبنانية على نزع سلاح «حزب الله».
لا تكمن المشكلة اليوم، كما تعكسها وجهات نظر عديدة حول مستقبل لبنان بعد الحرب، في نزع سلاح «حزب الله» فقط، بل ما سيترتّب على هذا الأمر من تعقيدات عديدة، بما فيها آلية نزع هذا السلاح، وقدرة ومرونة الحزب على التحوّل من طابعه العسكري إلى حزب سياسي، وقبل كل شيء، مدى قبول طهران بهذا التحوّل، الذي سيعني من الناحية العملية، تقلّص نفوذها في لبنان، في الوقت الذي لا يبدو فيه خيار تعديل خياراتها الإقليمية محلّ توافق داخلي بين الفاعلين الأساسيين في القرار الإيراني.
الحياة السياسية في لبنان، بوصفها ردّ فعل على الخارج، صفة ملازمة لهذا البلد منذ ما بعد الاستقلال، فمعظم القوى السياسية، على الرغم من بنيتها الطائفية الضيقة من حيث تمثيلها لفئات محدّدة من اللبنانيين، بقيت تبحث في الخارج عمن يساندها في وجه الآخرين، لتثقيل وزنها الداخلي، والمشاركة في السلطة والثروة، من خلال بوابتي المحاصصة الطائفية والتحالف مع الخارج، ما يجعل من تصاعد الانقسام الداخلي، والاتجاه إلى التعطيل السياسي أو العنف، مرهوناً بازدياد منسوب الانقسام بين المشاريع الإقليمية.
بهذا المعنى، فإن مفهوم «استقلال وسيادة لبنان» السائد في لغة الخطابة السياسية المحلية، لم يكن سوى خطاب استهلاكي، حيث تسود الاتهامات بين الأطراف اللبنانية، التي يتّهم كلّ منها الآخر بالولاء للخارج، ونزع صفة الوطنية عنه، بينما يستمر الجميع، أحزاباً وقادة، بتعريف أنفسهم كممثلين لطوائفهم، وهم حريصون على استمرار صيغة المحاصصة الطائفية التي أقرّها الدستور اللبناني، وبالتالي، استمرار زعاماتهم التاريخية، وهي زعامات عائلية مناطقية طائفية، لا صلة لها بعالم السياسة الحديث، أو بمفهوم الدولة الحديثة، عبر «اتفاق الطائف»، أمكن للبنانيين أن ينهوا الحرب الأهلية، لكن الاتفاق نفسه، بموازين القوى التي حدّدته، وبصيغته، وما أتاحه لمنتجي الحرب الأهلية أنفسهم من الاستمرار في موقع الزعامة، وتقاسم المشاريع والاستثمارات، والتعيينات داخل مؤسسات الدولة، التي تؤمِّن لهم ولاء القاعدة المناطقية والطائفية، بكل ذلك، بقيت الحرب الأهلية، إمكاناً قائماً، وموجودة دائماً بوصفها دينامية داخلية في ممارسة السياسة، وفي بناء التحالفات.
الاحتقان اللبناني اليوم في أشدّه، وليسن بالإمكان توقّع مآلاته، فالمحرك الأساس موجود في الصراع الإقليمي، الذي ستحدّد تحولات ميزان القوى فيه خيارات عدد من الدول، ومن بينها لبنان، لكن لبنان أكثر من غيره، نظراً لتركيبته الطائفية والسياسية، قد يتحوّل إلى ساحة مفتوحة للاستنزاف الإقليمي، بتكاليف منخفضة، وكخيار أقلّ تكلفة من المواجهة المباشرة بين الأطراف الإقليمية، التي تخوض صراعات، لا تزال أمامها العديد من المحطات.
[email protected]
0 تعليق