بدأ الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة يفقد بريقه العسكري والسياسي والاقتصادي، فبعدما كانت أمريكا تُسمى «شرطي العالم»، وأوروبا مجرد تابع لسياساتها، والعالم كله يتأهّب خشية رد فعلها ويحسب لها ألف حساب، أضحت اليوم عبارة عن قوة إلى جانب قوى أخرى، تنافسها بشراسة على تقاسم العالم، فلم يعدْ هناك ما يُسمى بالقطب الواحد؛ إذ انتهت تلك الأيام لمصلحة عالم متعدد الأقطاب يتشكل الآن.
روسيا بدأت العهد الجديد بالتأكيد صراحة أنها لن تسمح بهيمنة أمريكية على العالم، أو الاستفراد بدوله، وفرض إرادتها على الجميع، ولأجل ذلك بدأت حربها على أوكرانيا؛ لقطع أي نفوذ للغرب فيها، والحؤول دون محاصرتها من «الناتو» الذي تأسس لأجل تثبيطها ومنعها من الصعود، وأكد بوتين مرات عدة أن الهدف الرئيسي من مهاجمة أوكرانيا يتمثّل في منع تمدد الأخطبوط الأمريكي وأوروبا من التخوم الروسية، مشيراً إلى أن نتائج الحرب ستغير وجه العالم، لمصلحة قوى عالمية عدة، جنباً إلى جنب مع الولايات المتحدة.
كما أن الصين هي الأخرى حاضرة بقوة في ميدان النمو قوةً عالميةً كبرى، وهي تشترك مع موسكو بضرورة بناء عالم متعدد، وإنهاء تفرد أمريكا، التي تحاول جاهدة منع هاتين الدولتين من تحقيق طموحاتهما؛ إذ تشنّ عليهما حرباً اقتصادية وتجارية، وتدعم كييف عسكرياً وتطيل أمد الحرب، وتخلق توترات عسكرية في بحر الصين الجنوبي.
لم تتوقف الصين وروسيا عند حد المواقف، بل مضتا بخطوات فعلية؛ حيث عقدتا تحالفاً استراتيجياً يشمل كل شيء، ويحمل في طيّاته هدف إبطال العقوبات الغربية المتعددة، وتشكيل حائط صدّ ضد التغول الغربي، وإبطال محاولات هيمنته، كما تمّ توسيع نفوذهما عالمياً بشراكات استراتيجية مهمة، وزيادة قاعدة نفوذهما، ولم يغبْ ما ترمي إليه الدولتان من تحالفهما في مواجهة واشنطن التي تدرك أن تعزيز التحالف بين بكين وموسكو، سيؤدي إلى ضياع نفوذها على دول عدة لحساب مصلحة الأخيرتين؛ لذا فإنها تحشد لمنعهما من مواصلة الصعود وتوسيع نفوذهما، عسكرياً وسياسياً واقتصادياً؛ كونهما تشكلان خطراً استراتيجياً عليها، وهو ما بدأت أمريكا تلمسه بالفعل من توجه دول عدة إلى التحالف مع الدولتين العظميين الآن.
روسيا تخوض حرباً عالمية في أوكرانيا، والصين تتأهب لمثل هذا التصعيد، مع حشد الولايات المتحدة قطعها العسكرية قرب بحر الصين الجنوبي، ودعمها تايوان بمختلف أنواع الأسلحة لمواجهة أي هجوم صيني، لكن أي خطأ بالحسابات سيجرّ الجميع نحو حرب كبرى، وساعتئذٍ لن يكون للقطبية أي أهمية لأن الجميع سيُدمّر؛ لذا فإن هاتين الدولتين لا تزالان تلعبان على الحبال بدقة شديدة، مع إيصال رسالة لواشنطن عبر تحالفهما أنهما لا تضمنان استمرار الحبل مشدوداً في حال استفزازهما أو التعدي على مصالحهما.
0 تعليق