هل أتى على المثقفين زمن غرائبي، تجلّت لهم فيه حقيقة الأمانة الثقافية، التي أَبَت الميادينُ الأخرى حَمْلَها، وحملوها؟ لقد تجاوزت الأوضاع الترانيم البلاغية في المحاسن والأضداد الجاحظية، لكن، لا بأس بالبحث عن أدنى الإيجابيات في خضم السلبيات.
عمليّاً، وبالبراهين التي تَكْبُر عن أن تُفنّد، يُعدّ المثقفون في هذه المعامع والمهامه، والهيجاء الهوجاء، والتصاريف العوجاء، في إجازة مفتوحة براء من أيّ شغلٍ شاغل، أو فعلٍ فاعل، في حياة الشعوب، غائبين عن كلّ آنيّ، بتعبير جنكيز آيتماتوف: «ويطول اليوم أكثر من قرن». مهلاً، فليس الآن وقت الحساب، ولا على المكتوب يفيد الندم. لكن، على الثقافة أن تدرك أنها منذ الربع الأخير من القرن التاسع عشر، حتى منتصف القرن العشرين، في الأقل، كانت ثقافة فعل لها روّاد دعاةُ تحرّرٍ واستقلال وحريات فكر ورأي وتعبير، وتطوير تعليم ونشر للفلسفة، وتأسيس للمعرفة الموسيقية والنقد الفني الجادّ. بالمناسبة: هل تذكر كيف أمر سعد زغلول بإجبارية تعليم الموسيقى في الابتدائيّة؟ لو دامت أوامره، لكان للعرب اليوم آلاف الزغاليل الموتزارية، البيتهوفينية، الروسينية والتشايكوفسكية.
بسحر ساحر في زمن ساخر، صار المثقفون اليوم لا رابطة تربطهم بمثقفي النصف الأوّل من القرن الماضي، كأن ما بين الفريقين عشرات القرون. الفحص السريري لديه القول الفصل. هل يستطيع المثقفون حاليّاً أن يأتوا بالدليل على أنهم أوسع إلماماً بعلوم اللغة العربية من أولئك السابقين؟ وماذا عن الإحاطة بالفلسفة منذ ما قبل الفلاسفة السقراطيين؟ ثم ماذا عن الأدب العربي والآداب العالمية؟ وماذا عن تاريخ البلدان والحضارات القديمة؟ قسْ على ذلك يميناً وشمالاً وفوقاً وتحتاً. الآن السؤال المثير: كيف كانت ردود الفعل لدى عرب النصف الأوّل من القرن العشرين، مثقفين ونخباً ومن كل خاصة وعامّة، إزاء المستجدّات في الملمّات والشدائد، على الأرض العربية من الماء إلى الماء؟ كأن الأقدار ذهبت بشعوب وأتت بأخرى. هل صدمتك الصورة وروّعك المشهد؟ حسناً، هدئ من روعك. سنضع أمامك مجموعة أسماء، وعليك انتقاء نظرائهم اليوم. لا تتسرع، أمامك ما شئت من الوقت، المهمّ هو اقتناعك بأن قوماً رحلوا وآخرين حلّوا محلهم، والمتنبي يقول: «إنّما التهنئات للأكفاءِ». نستحضر من الماضين: طه حسين، شوقي، عبدالرحمن بدوي، حسين فوزي، السنباطي، محمد عبدالوهاب، أحمد أمين، العقاد، توفيق الحكيم، أم كلثوم، جمال حمدان، عبدالوهاب المسيري، وكلهم من مصر فقط. تلك قائمة عشوائية من مئات، فهات.
لزوم ما يلزم: النتيجة الغفرانية: المثقفون العرب لهم رحابة صدور تقاس بالسنين الضوئية، وهم يغضّون الطرْف عن بلدان عربية تطير بشعوبها، فهل ستزعجهم شقشقة هدرت من القلم؟
0 تعليق