وليد عثمان
نعيش منذ بداية الحرب على غزة جدلية كبيرة، كعادتنا الأثيرة وهي الاتفاق على ألا نتفق، وإنفاق الجهد والوقت في ما لا يثمر إلا مزيداً من التشاحن والبغضاء.
فريق رأى أن تتوقف كل صور الحياة نصرةً للقضية الفلسطينية، وآخر اعتبر أن الإصرار على الحياة بكل معانيها نوع من المقاومة التي تقطع الطريق على الاستسلام. وبين الفريقين، وقف ثالث محاولاً أن يوازن بين وجهتي نظرهما بالدفاع عن كل خطوة تعني البقاء من غير الغفلة عن معاناة متواصلة في غزة ولبنان وغيرهما.
في غمرة هذا الخلاف العربي المعتاد، تنشأ، كالعادة أيضاً، مزايدات تكفي العالم واتهامات متبادلة تسفّه القضية الأصلية وتفرّعها إلى مصالح لجماعات وتيارات بعينها..
ومما يُحمد أن التيار الغالب هو الذي ينتصر لحتمية القبض على كل صورة أو رمز للبقاء، فالحرب ليست بالسلاح دوماً، وأية قضية عادلة لم تبق حية بالاشتباك المباشر. ألا يحفظ لنا سجل النضال الفلسطيني كلمات فصيحة من منابر دولية، واحتضان الآلاف مفاتيح بيوتهم التي سكنها غيرهم، أملاً في العودة إليها؟ ألا تعلو «الكوفية» فوق خطب وتصريحات لا تُسمن ولا تُغني من جوع؟
هل تقل «الدبكة» أهمية عن رقصة «الهاكا» التي دخلت تاريخ البرلمان النيوزيلندي، قبل أيام، حين كانت وسيلة عدد من نواب حزب الماوري لتعطيل التصويت على مشروع قانون يمسّ، من وجهة نظرهم، حقوق السكان الأصليين؟ قبل ذلك بساعات، كان البعض يهاجم إدارة مهرجان القاهرة السينمائي، لأنها منحت «الدبكة» الفلسطينية مساحة في حفل الافتتاح. والمهاجمون تساءلوا عن جدوى ذلك، بينما عدّاد الضحايا في غزة لا يتوقف. وحين انتشرت في العالم احتجاجات «الهاكا»، تغنّى الكثيرون برمزيتها ونجوعها.
التشبث بالجذور له ألف وجه، والاستمساك بالحق يعني أولاً أن تحفظ قيمة كل ما يعبر عن وجودك دون الوقوع في خطيئة وصفه بالتفاهة أو اللاجدوى، ودون الإغراق فيه حتى لا يتحول إلى رقص على جثث الضحايا.
حزب الماوري هو المعبّر عن السكان الأصليين في نيوزيلندا، و«الهاكا» هي تعبير عن هويتهم يظهر في مناسبات كثيرة ربما أهمها الآن هذه الجلسة البرلمانية التي كانت نجمتها النائبة هانا كلارك حين ابتدرت الاحتجاج بتمزيق نص القانون، قبل أن تؤدي الرقصة التاريخية، مصحوبة بأصوات الاحتجاج من زملائها في الحزب. وامتدت الرقصة إلى الشوارع بعد أن عطلت تمرير القانون في صورة مظاهرات لأنصار الحزب رفضاً لمحتواه الذي يرون أنه ينتقص من حقوقهم.
بهذا التقليد الراقص الضارب في التاريخ، وهو مرادف للفخر والشجاعة والاعتزاز بالجذور، كسب نواب الماوري جولة من معركة الدفاع عن وجودهم. قد لا يسعفهم الحظ لتحقيق النصر في كل مرة، لكنهم يصدّرون نموذجاً نحتاج إليه الآن لتخليد كل رمز والفخر بكل تعبير عن الهوية، فربما يكون ذلك السلاح الأمضى في يوم يستعيد فيه أصحاب كل أرض محتلة أرضهم.
0 تعليق