التغيير سنة الحياة، وهو واقع لا محالة، لا صباح اليوم يشبه صباح الأمس ولا ظلمة هذه الليلة تشبه ظلمة الأمس، ولا الأوكسجين الذي يدخل صدورنا هذه اللحظة هو ذاته أوكسجين ما قبل لحظات، والكائن الحي الآن ليس هو كائن الأمس، والمجتمع والدولة والكون الآن ليس هو ذاته بكل مكوناته يشبه الأمس، يحدث هذا شئنا أم أبينا، هو ناموس العالم ولغة الحياة، يتغيّر سلباً أو إيجاباً، والإنسان العاقل هو الذي يسعى، قدر استطاعته، أن يكون التغيير إيجابياً ونافعاً، وهذا لا يحدث من تلقاء نفسه، إنما بجهود ومبادرات وعصف أفكار ونوايا صالحة وإرادة وعزيمة ثابتتين، وسيكتشف الإنسان، بعد تجربة، أخطاءه ونجاحاته، فيصلح الأخطاء ويعزّز النجاحات.
وهذه العملية هي الأصعب والأدق، فالإنسان مخيّر في ما يخصّه، فإن أجاده كانت المخرجات لصالحه، وإن فشل تكون وبالاً عليه. وفي هذه العملية لا بد من اختيار الأنسب والأجمل والأقرب لنفسه وثقافته وبيئته، وأن لا يستورد الجاهز الغريب ويطبقه على الحاضر الأليف، فكل محاولات الإتيان بالنظريات الجاهزة المصاغة خارج البيئة والتاريخ المحلي وتطبيقها عنوة على المجتمع باءت بالفشل، ولنا في التوجهات القومية والاشتراكية والشيوعية والرأسمالية والليبرالية والديمقراطية أمثلة جادة، فالمجتمعات التي استوردتها استيراداً، ومن دون مقدّمات وطبقتها على شعوبها من دون رضا واستعداد، اختبرت مشاكل لا حصر لها، وكانت النتيجة اضطرابات وانتكاسات اجتماعية أعاقت التنمية والتطوّر والتقدّم، ولم تعد إلى الطريق السليم والحياة الطبيعية إلا بعد تخلّصها من تلك التوجهات، والأخذ بأخرى مشتقة من البيئة والثقافة المحلية الداخلية، القابلة للتطوّر والتحسين مع مرور الوقت ومع توفّر النوايا والإرادة المعزّزة بالضمير الجمعي.
وفي المقابل فإن كثرة الأخذ بالتوجهات المستوردة وتغييرها بين فترة وأخرى تخلق الغربة في أصعب تجلياتها وتعقيداتها، فالمجتمعات لا تحتمل الاختبارات والاجتهادات الغريبة، وإنما تتآلف مع أخواتها الأليفات المعروفات، فكم من دولة نزعت عنها الأفكار الاشتراكية أو الشيوعية أو حتى الديمقراطية والليبرالية وعادت إلى ما كان يجمعها بانسجام واحترام، ويقدّر الطاقات والمواهب والمهارات، وهذه لها صلة بالشخصية الوطنية، التي تشبه في مكوناتها جينات الجسد، الذي يتعايش مع ما يعرفه ويألفه، حتى لو كان (متخلّفاً) من منظور آخرين، فالجسد يرفض الأعضاء الغريبة في معظم الأحيان، ولا يتقبّلها، ويواجهها من خلال المضاعفات التي تبدو سلبية لكنها مضاعفات تنم عن عدم قبول العضو الغريب المفاجئ والمداهم للجسد.
إن أي تغيير مخالف للقواعد والأنماط المتوارثة يجب أن يتم بالتدريج، فالمجتمع الذي لم يختبر النظام الديمقراطي أو الاشتراكي أو الرأسمالي أو الديني، وعاش ردحاً طويلاً من الزمن في نظام آخر، واختار له أولياؤه نظاماً محدّداً، لا بد له من وضع خطة مفصّلة وتدريجية لتقديم هذا الفكر الطارئ الغريب درجة درجة وخطوة خطوة، بحيث لا يشعر المجتمع بهذا الطارئ إلا وقد أصبح ضمن أسلوب حياته، وقناعاته. وقد يرى المخططون اختيار نظام يتشكّل من جميع الأنظمة والأفكار المطروحة عالمياً، وهذا يحتاج إلى ثقافة عالية يتمتع بها المخطط والمجتمع، لأن هذا النظام لا تستوعبه إلا المجتمعات المثقفة أو لنقل مجتمعات المعرفة، وهو في الواقع، يعكس المستوى التنويري الذي وصلت إليه المجتمعات، ويمكن وصفها بالمجتمعات الحرة، التي تؤمن بخيارات الناس وحرية معتقداتهم وخياراتهم في أساليب حياتهم، ووصلت إلى مقولات تطبقها بقناعة تامة، مبنية على احترام الآخر وثقافته ومعتقده وعاداته وتقاليده، شرط أن يحترم الآخر خصوصيتك وثقافتك وتجربتك وشخصيتك الوطنية.
ولن تصل هذه المجتمعات إلى هذا الواقع إلاّ بمبادئ التسامح، وهو ما تسعى دولة الإمارات العربية المتحدة، كنموذج تنموي اجتماعي واقتصادي ومعرفي، إلى إيجاده، أي توفيره، إن لم يكن خلق المجتمع المتسامح. وقد يقول قائل إن تعدّد الجنسيات بما تحمله من ثقافات ومعتقدات ومعارف وأساليب حياة مختلفة، جعل الإمارات تعمل على إشاعة وتشكيل مجتمع التسامح، والبعض يذهب بعيداً فيعتقد أن الهدف أمني بامتياز.
وأعتقد أن هذا الطرح غريب بعض الشيء، ويميل إلى البراغماتية والنفعية، لأن المجتمع الإماراتي، من دون هذا الحشد الواسع من الجنسيات، يؤمن بقيمة التسامح النابعة من عقيدته ونسيج مجتمعه، وهو منفتح على الآخر منذ القدم، من خلال التفاعل الثقافي والمعرفي والتبادل التجاري وغيرها، وجاءت هذه الأجناس والجنسيات، وانصهرت في مجتمع التسامح، مع قليل من التوعية الإنسانية. أما بالنسبة للجانب الأمني، فهو تحصيل حاصل، وهدف مشروع، حتى يكون جميع الناس منسجمين مع القوانين، التي تتغير مع تغيير نمط العيش وتطوّر الحياة.
نحن في عالم متحفّز لتغيير ذاته وتغيير الآخر، وهو موجود في الفترات الزمنية السابقة، لكن وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام الجديد ساعدت على إظهار هذه التوجهات، أي العمل على الاستنساخ، بقصد أو بغير قصد، وأدت في بعض الأحيان إلى اشتباكات فكرية وعقائدية، وهذا يقودنا إلى طرح فكرة جديدة بشأن التسامح الإلكتروني، التسامح في العالم الافتراضي الكوني، حتى يؤدي إلى تسامح في العالم الواقعي الكوني. وهو غاية البشرية التواقة للعيش بسلام.
0 تعليق