أسبوعان فقط يفصلان بين تولي الرئيس الأمريكي المنتخب سلطاته في العشرين من يناير/ كانون الثاني الجاري وبين الوعود التي أطلقها ليحكم بها الولايات المتحدة وفق تطلّعه لـ«استعادة أمريكا قوية» بما يعنيه ذلك من إعطاء كل الأولوية للشعار الذي حكم حملته الانتخابية القائل «أمريكا أولاً» من دون اعتبار لكل ما يمكن أن يحدثه ذلك من صدامات مع مصالح قوى وأطراف دولية كثيرة حليفة كانت أم عدوه.
أوروبا كلها أكثر المتخوفين من المرحلة الجديدة للعلاقات الأوروبية – الأمريكية، ولا يدري الأوروبيون كيف يمكنهم أيضاً تحقيق مصالح أوروبا الحيوية من دون صدام مع الولايات المتحدة خلال السنوات الأربعة المقبلة، السبب الجوهري لهذا التخوف مرجعه أن أوروبا تدرك أنها عاجزة عن الصدام مع الولايات المتحدة في الوقت الذي تعي فيه أنها ربما تكون مضطرة إلى مثل ذلك الصدام للدفاع عن مصالح أوروبية بحته قد تكون مهددة في حالة «الانصياع الأوروبي» للمطالب والشروط الأمريكية. لذلك أضحى السؤال الأهم لمواجهة هذا المأزق هو: هل آن الأوان لتخرج أوروبا، أو بالأحرى، لتتحرر من «الوصاية الأمريكية»؟ وإذا كان هذا الأوان قد حان، فهل تملك أوروبا القدرة على التحرر من هذه الوصاية؟ وكيف؟
فرنسا، وبالتحديد الرئيس إيمانويل ماكرون، تزعم الإبحار في الأمواج العاصفة التي أخذت تجتاح العلاقات الأوروبية – الأمريكية، وهو هنا يحاول أن يستعيد مجدداً زعامة فرنسا لدعوة «الاستقلالية الأوروبية» التي سبق أن قادها الزعيم الرئيس شارل ديغول، لكن ضمن إدراك لتغير موازين القوى بين فرنسا والولايات المتحدة في عهد ديغول، خاصة خلال عقد الستينات من القرن الماضي، وبين وضع فرنسا الراهن، المأزوم سواء داخلياً أو على المستوى الأوروبي وعلاقاتها المتدهورة مع ألمانيا، أو على مستوى الدور الفرنسي الخارجي الذي يزداد تقلصاً يوماً بعد يوم خاصة في القارة الإفريقية التي أخذت تتمرد على النفوذ العسكري الفرنسي.
التحرك الفرنسي لإحياء دعوة «الاستقلالية الأوروبية» جاء على لسان الرئيس ماكرون في إطار أول رد فعل تنظيمي أوروبي لمواجهة المخاطر المحتملة لعودة ترامب بعد مرور 48 ساعة فقط على تأكيد فوزه في الانتخابات الرئاسية يوم الخامس من نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، خلال اجتماع القادة الأوروبيين الذين اجتمعوا طوال يوم الخميس 7 نوفمبر/ تشرين الثاني 2024 في العاصمة المجرية بودابست في إطار «المجموعة السياسية الأوروبية» التي تضم كافة الدول الأوروبية باستثناء روسيا، وبعدها اجتمع قادة الدول الـ27 أعضاء الاتحاد الأوروبي في اليوم التالي للسبب نفسه، وكانت دعوة بناء «الاستقلالية الاستراتيجية الأوروبية» هي الدعوة الأهم التي سيطرت على الاجتماعين، حيث تولى الرئيس الفرنسي هذه المهمة.
ماكرون شدد في كلمته المطولة على «مخاوف أوروبا» من «الإهمال الأمريكي» والشعور، وفق تعبيره، بأن أوروبا «ستكون عارية» إذا تراجعت الولايات المتحدة، خلال ولاية ترامب الثانية، عن التزاماتها في إطار حلف شمال الأطلسي، ومن هنا جاءت دعوته إلى «بناء دفاع أوروبي» يحقق الاستقلالية الاستراتيجية، وطرح السؤال المهم على نظرائه من القادة الأوروبيين: «هل سيقوم الآخرون بكتابة التاريخ عنا أم نريد أن نكتبه بأيدينا»؟، وأعقبه بالإجابة: «أعتقد أنا شخصياً أن لدينا القدرة على كتابته.. أما الطريق إلى تحقيق هذا الهدف فإنه يمر عبر التحرك، وأن نؤمن بقدرتنا على تحقيق الاستقلالية الاستراتيجية، والدفاع عن مصالحنا».
دعوة ماكرون لم تحرك «المياه الأوروبية الراكدة» في ظل أوجاع أوروبا بالعجز عن الدفاع عن أوكرانيا من دون الارتكان إلى الدور الأمريكي. وهي الأوجاع التي أخذت تتفاقم مع دعوة الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب لفرض «حل سياسي» للأزمة الأوكرانية عبر تفاهمات مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. هذه الأوجاع نكأها بغلظة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي خلال اجتماعات القمة الأوروبية الأخيرة التي حضرها في بروكسل وكان هدفها الرئيسي «بلورة استراتيجية أوروبية مشتركة للضغط على ترامب، وحثه على عدم التخلي عن أوكرانيا، والتوافق على تحرك من شأنه أن يوفر الدعم لكييف».
زيلينسكي لم يقدر في كلمته مسعى القمة الأوروبية لرسم «خطوط حمراء» أمام ترامب لا يجوز تجاهلها في تعامله مع الأزمة الأوكرانية، وأكد أن «الضمانات الأوروبية وحدها لا تكفي». وقال: «نحن نحتاج للوحدة بين الولايات المتحدة والاتحــــاد الأوروبـــي للــوصول إلى الســــلام»، وأن «أوروبا وحدها لا تستطيع ضمان أمن أوكرانيا».
إدراك زيلينسكي لـ«العجز الأوروبي» كانت له خلفياته الأوروبية البحتة، سواء كانت التحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تدفع باليمين الأوروبي، غير المؤمن بالوحدة الأوروبية، نحو الصدارة السياسية في كثير من الدول الأوروبية، أو لـ«غياب القاطرة الأوروبية القوية» القادرة على تشكيل «القيادة الأوروبية» التي يكون في مقدورها تحقيق دعوة ماكرون لـ«الاستقلالية الاستراتيجية الأوروبية» بسبب الخلاف المتصاعد بين فرنسا وألمــــانيا حــول «الأولـــويـــات الأوروبــيــة» وبـسـبـــــب «التغيير السياسي» الذي ينتظر البلدين بعد انفراط عقد الائتلاف الحاكم الذي يقوده المستشار الألماني شولتس، وفي ظل اقتراب موعد انتخابات رئاسية فرنسية عام 2027 يحكمها عـجز حكومي بعد الانتخابات البرلمانية الفرنسية الأخيرة التي جاءت في غير صالح تحالف الرئيس ماكرون.
[email protected]
0 تعليق