قلت للقلم: هل تستطيع أن تختصر لي مشكلات الموسيقى العربية اليوم، فإن دماغي لا يتحمّل التحليل، ويملّ الإغراق في التفصيل؟
قال: قد أوتيت سؤلك يا هذا؟ لأحصرنّ لك كل المعضلات في اثنتين: إحداهما طامّة، والأخرى الطامّة الكبرى، فإن رمت الترفّق في البيان، فقل: إحداهما مَعيبة، والأخرى مُصيبة. والأخيرة أسوأ من الأولى.
أمّا الطامّة، فهي أن أكثرية المشتغلين بالموسيقى في بلاد العرب، مغيّبة عن علاقة هذا الفن بالسيادة، بالأوطان، بالشعوب، بالأمّة وتاريخها عبر العصور، وإرادتها وطموحها وحاضرها ومستقبلها. من تلك الأوساط فئات فهمت الأصالة باستخفاف، توهمت أنها تعمل على إحياء مشاهد مجالس الطرب في «كتاب الأغاني» لأبي الفرج الأصفهاني، ولكن، هيهات، فلو جمعوا طنّاً من غثاء الغناء الذي يسيئون به إلى الذوق السليم، ما كان أهلاً ليساوي شطر بيت من غزل العصور الخالية. نقول هذا حرصاً منّا على ألاّ يجرّد أهل المغنى أنفسهم من مقوّمات الفن. فليتذكروا أنه في القرن العشرين، أي بالأمس القريب، كان العالم العربي أفضل حالاً وأشدّ تماسكاً وتعاضداً وتكاتفاً، ممّا هو الآن، وأمنع تراباً وأسرع استجابةً لتلك العبارة التي باتت نسْياً منسيّاً: مواجهة التحدّيات. أيّامها كان محمد عبدالوهاب يصدح برائعة «دعاء الشرق»، وسعاد محمد تنشد «إذا الشعب يوماً أراد الحياة»، وكوكب الشرق تشدو «أنا تاج العلاء في مفرق الشرق ودرّاته فرائد عقدي»... العمود لا يتسع لمئة عمود لذكر بعض القائمة. لا بأس بكلمة عرضيّة عن غير العرب أيضاً. ما للقوم لا يقتدون بعبقري وطني مثل فريديريك شوبان، الذي لعب دوراً بارزاً في تحرير بلده بولندا من بروسيا؟ يقيناً، نتمنى أن يعمّ السلام العالم، لكن الحروب تُفرض على الشعوب أحياناً. حين تسمع مارشات شوبان العسكرية في أيّ حرب، فاعلم أنك على الأرجح، تسمع مارشات شوبان. هذا لمجرد تذكير أهل المغنى المغيبين، أن الفن يلعب أيضاً أدواراً رائدةً لا تحصى، غير الكلمات الهشة القشرية، بإيقاعات راقصة. يستطيع الفن أن يكون جادّاً نهضوياً سامياً.
أمّا الطامّة الكبرى، فهي أن تلك الفئات من أوساط الموسيقى، لا تعرف ما هو جوهر الموسيقى كغذاء للفكر والروح، لأنها لا تعلم كيف يكون الصعود إلى قمم الموسيقى الجادّة. ببساطة: أين يصنّف المذكورون أعلاه أنفسهم، بين أساطين الموسيقى العربية، ثم بين كبار الموسيقى السيمفونية؟ المبدع الحقّ ينقد أعماله قبل أن يضعها النقّاد على المحك.
لزوم ما يلزم: النتيجة القياسية: إذا كانوا يعتقدون أنهم أهل فن، فليسمحوا بمقاييس الفن المقارن، فالفن بالفن يذكر.
[email protected]
0 تعليق