د. صلاح الغول *
منذ اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب الأهلية اللبنانية في عام 1989، والذي كان للسعودية دور محوري في رعايته وتنفيذه، قامت الرياض بدورٍ ريادي في إعادة بناء لبنان ورعاية السلام الأهلي فيه ودعمه سياسياً واقتصادياً. ومنذئذٍ، كان يحلو لدارسي العلاقات الدولية وصف العلاقات اللبنانية-السعودية ب«العلاقات الخاصة»، وهي نمطٌ مميز وقوي من العلاقات بين الدول وقادتها. وفي هذا الإطار، وفرت السعودية دعماً مادياً ومعنوياً هائلاً للبنان، وكان اقترابها شمولياً في التعامل مع كافة طوائف وقوى الشعب اللبناني.
وقد أسهمت السعودية إسهاماً بالغاً في التأكيد على عروبة لبنان، وأنّ العروبة لا تتناقض مع «اللبنانية» أو الهوية الوطنية لبلاد الأرز. كما حاولت جاهدةً الربط والتوفيق بين المؤثرات المحلية والعربية والإقليمية والدولية على لبنان، بحكم أنّ موقعه الجيوسياسي يجعله عُرضة لهذه المؤثرات المتباينة.
وبعد بضع سنوات من النأي بالنفس عن الشأن اللبناني أو عدم الانخراط مع لبنان، لأسبابٍ كثيرة يضيق المجال هنا عن التفصيل فيها، عادت السعودية إلى لبنان أو عاد لبنان إلى السعودية. ففي أثناء الحرب الإسرائيلية على لبنان، سعت الرياض إلى ممارسة نفوذها الدبلوماسي لوقف العدوان الإسرائيلي، وأكدت أهمية الحفاظ على استقرار لبنان واحترام سيادته، ودعت إلى قمة عربية وإسلامية لبحث الحرب في لبنان وغزة، ووفرت إمدادات غذائية وطبية للنازحين اللبنانيين. وبعد أنْ وضعت الحرب أوزارها في أواخر نوفمبر (تشرين الثاني) المنصرم، أقامت الرياض جسراً جوياً من المساعدات الإنسانية لإغاثة الشعب اللبناني، ورأت أنّ الظروف أصبحت مهيأة، أكثر من أي وقتٍ مضى، لملء الفراغ الرئاسي في قصر بعبدا الذي دام أكثر من سنتين عجفاوين.
ورغم تعاونها مع اللجنة الخماسية (المكونة من السعودية ومصر وقطر وفرنسا والولايات المتحدة) بالأساس في هذا الخصوص، عن طريق وضع مواصفات لمن هو الأجدر بالرئاسة اللبنانية، من دون طرح أسماء أو قائمة أسماء بعينها لمرشحين رئاسيين، فإن دورها كان أساسياً في تهيئة الظروف وتشجيع الأطراف اللبنانية على انتخاب قائد الجيش العماد جوزيف عون رئيساً للبنان، في 9 يناير (كانون الثاني) الجاري، والذي حصل على 99 صوتاً من أصل 128 صوتاً في الدورة الثانية من تصويت مجلس النواب.
ويُعدّ العماد جوزيف عون شخصية وطنية، تحظى بدعم إقليمي ودولي، لا سيما من جانب السعودية والولايات المتحدة، ويُعرف بنهجه التوافقي وعلاقاته الإيجابية مع الأطراف المختلفة في لبنان. ويُنظر إلى انتخاب عون رئيساً كفرصة لاستقرار لبنان بعد أزمة الشغور الرئاسي، وسط أوضاع سياسية واقتصادية صعبة، ويمثل عهده بداية مرحلة جديدة قد تحمل آمالاً بالاستقرار والتوافق.
ومما يدل على محورية الدور السعودي في اختيار رئيس الجمهورية، أن الأخير زار الرياض، بوصفه قائداً للجيش، في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، حيث التقى وزير الدفاع السعودي الأمير خالد بن سلمان. ورغم نفي المحللين السعوديين وجود أية علاقة بين الزيارة الأخيرة والانتخابات الرئاسية في لبنان، فإنّ ظروف الزيارة وتوقيتها بالغة الأهمية، ولا يمكن عزلها عن مناخ التحضير للانتخابات.
والمقربون من الرئيس اللبناني الجديد يذكرون أنه ممتن لدور السعودية الحاسم في إتمام التصويت البرلماني. ولحلحلة أزمة انتخاب الرئيس، أرسلت المملكة وفداً برئاسة الأمير يزيد بن فرحان، رئيس لجنة الشأن اللبناني في وزارة الخارجية السعودية ومستشار وزير الخارجية، إلى بيروت للمرة الثانية خلال أسبوع (كانت المرة الأولى في 3 يناير/ كانون الثاني الجاري)، وقبل أقل من 24 ساعة من جلسة مجلس النواب المقررة لانتخاب الرئيس. وعقد الوفد السعودي اجتماعات خاطفة مع مختلف الأحزاب السياسية، من أجل حثها على التوافق على مرشح رئاسي (يعني: جوزيف عون).
ولذلك، فإنّ زيارته الأولى سوف تكون إلى السعودية. وبعد أنْ أثنى على مواقف السعودية تجاه لبنان وشعبه، أكد الرئيس عون، أنها ستكون أول مقصد له في زياراته الخارجية تلبيةً لدعوة الأمير محمد بن سلمان لزيارة السعودية. وأوضح الرئيس عون، أن اختياره السعودية كأول وجهة خارجية يأتي «إيماناً بدور السعودية التاريخي في مساندة لبنان والتعاضد معه، وتأكيداً لعمق لبنان العربي كأساس لعلاقات لبنان مع محيطه الإقليمي».
وفي 12 يناير (كانون الثاني) الجاري، شارك وزير الخارجية اللبناني عبدالله بو حبيب في اجتماع الرياض الوزاري بشأن سوريا، الذي لم يقتصر على بحث الدعم العربي لسوريا ما بعد الأسد، ولكنه، بإيعازٍ سعودي، تداول في أهمية دعم لبنان لمساعدته في القيام بإصلاحات بنيوية شاملة. ولذلك، أشار بو حبيب إلى أن «اجتماع الرياض حول سوريا هو من أفضل وأنجح الاجتماعات التي شاركت فيها تحضيراً ومخرجات، وهنالك توافق وتناغم تحقق حول الأولويات والأهداف».
والخلاصة أنّ عودة السعودية إلى لبنان ما هي إلا استئناف لدور المملكة التاريخي في بلاد الأرز، وتجسيد للعلاقة «الخاصة» بين الدولتين. كما أن عودة لبنان إلى السعودية تعبيرٌ عن عودة التأكيد على التوجه العربي للبنان.
[email protected]
* متخصص في العلاقات الدولية والقضايا الجيوسياسية
0 تعليق