سوريا في العام 1957 وسوريا في العام 2024. الكثير تغير فيها وفي الشرق الأوسط، ولكن الكثير أيضاً فيهما لم يتغير. صدر قرار من حكومة الرئيس شكري القوتلي بتعيين الجنرال عفيف البزري رئيساً للأركان في الجيش السوري. سرت شائعات عن أن الرجل متعاطف مع الشيوعيين، وهو الاتهام الشائع في ذلك الحين عن كل الأفراد والجمعيات المناهضة لإسرائيل والهيمنة الغربية. انفعل الرئيس دوايت أيزنهاور بناءً على معلومات وتحليلات رفعها إليه وزير خارجيته الداهية جون فوستر دالاس فأصدر أو وافق على إصدار ما عرف بمبدأ أيزنهاور.
حقيقة الأمر تكمن في أن الشرق الأوسط كان يغلي بالغضب والثورة على الغرب منذ أن نشب العدوان الثلاثي في حرب السويس عام 1956. يذكر التاريخ أن أشد الغضب تركز في سوريا وبطبيعة الحال في مصر. أشد الغضب في سوريا تركز في الجيش وبخاصة بين ضباط الصف الثاني وفي الشارع بشكل أثار خوف وانفعال الدول المجاورة وهي تركيا والأردن والعراق ولبنان. أما أشد الغضب في مصر فعبرت عنه بتضخم وإثارة أجهزة الإعلام المصرية مستعينة بالاختراع التكنولوجي الأحدث وهو الراديو الترانزستور. لم تنس العواصم الغربية وعواصم عربية الحملة المصرية لإسقاط حلف بغداد. كذلك هددت هيمنتها ونفوذها المظاهرات المستمرة رافعة شعارات ضد الغرب وملتفة حول نداءات الوحدة العربية والقومية العربية. هذه الأخيرة التي اعتبرها دالاس تمثل تهديداً مباشراً لمصالح أمريكا في المنطقة.
بناءً على هذه الفرضيات صدرت النصائح الأمريكية للحكومة التركية، نصائح أو تعليمات تقضي بحشد قوات تركية على حدود سوريا الشمالية. وفي الوقت نفسه حفلت صحف إنجلترا وأمريكا والغرب بمقالات وتحليلات تعتبر أن «فراغ قوة» نشأ في الشرق الأوسط بسبب الوضع في سوريا.
أذكر جيداً تفاصيل تلك الأيام وحال التعبئة في الجامعات المصرية ومنظمات الشباب واتحادات الطلبة، كما أذكر جيداً ما أحدثته زيارة الضباط السوريين لمصر ليجتمعوا بعبد الناصر ويطلبوا إقامة الوحدة بين البلدين.
كانت عبارة «سوريا مركزاً أو سبباً لفراغ القوة في الشرق الأوسط» محور أحاديثنا في ذلك الحين استناداً إلى كونها المبرر الذي استخدمه الغرب لتغيير النظام في سوريا. مرت سنوات بل عقود لتنتهي بزمن تعلو فيه مرة أخرى راية هذا الزعم كمبرر لتدخل جديد في سوريا، هدفه الأهم، كما كان تماماً هدف مبدأ أيزنهاور وتعبئة جيوش تركيا وجيوش أخرى على حدود سوريا وهو ملء فراغ القوة المزعوم أو الحقيقي. كان أيزنهاور واضحاً في إعلانه أن فراغ القوة ناشئ عن الانتكاسة التي لحقت بمكانة بريطانيا العظمي في الشرق الأوسط.
لاحظ أنه في المرتين تحركت إسرائيل لتغزو وتحتل أراضي سورية. في المرة الأولى أعرب جون فوستر دالاس عن أمله في أن تتمكن أمريكا من وقف الزحف العسكري الإسرائيلي علماً بأنها تدخلت عسكرياً في لبنان بالعام التالي، بينما في المرة الثانية، أي بعد نحو سبعة وستين عاماً، لم تبذل الولايات المتحدة جهداً، أو حتى بالأمل، لوقف التدخل العسكري الإسرائيلي. كما أنه في المرة الثانية، أي الجارية حالياً، لم يصدر عن البيت الأبيض مبدأ يحمل اسم الرئيس بايدن ربما لأنه أراد أن يحتفظ لنفسه بصفة الرئيس الذي لم يجر الولايات المتحدة إلى حرب، فشاء أن يدفع بإسرائيل إلى حرب هي دائماً راغبة فيها ولكن برضاء أو تغطية أمريكية وهو ما حدث في حرب غزة ويحدث في لبنان والضفة الغربية.
يأتي النظام الجديد إلى دمشق في زمن يشهد بوادر تحولات هائلة في مختلف توازنات القوة الدولية والإقليمية. أخشى أن أقول بل أؤكد قناعتي بأنها جميعاً أو أغلبها تعكس تداعياتها من قريب على تطورات الوضع السياسي لدمشق تحديداً وسوريا بمعنى أوسع. تنبع هذه القناعة من متابعة طويلة الأجل لما أطلق عليه خصوصية سوريا في شبكة التفاعلات الشرق أوسطية منذ زمن طويل. التحولات المتوقعة وبعضها تجاوز التوقعات وصار واقعاً نعيشه. نعيش «شرق أوسط» على طريق الانتقال، نشهد فيه عودة الدول الإقليمية وأقصد تركيا وإسرائيل وإيران إلى انتزاع بعض أدوار القيادة والتوجيه في الإقليم من دول عربية.
تركيا بحكم تاريخها الإمبراطوري واعتبارات أخرى دولة توسعية، وكذلك إسرائيل وإيران بحكم العقيدة وأحياناً الأسطورة.
نكرر أخطاء السابقين إن تصورنا أن الأمور في الشرق الأوسط استقرت وأن المرحلة الانتقالية وصلت إلى منتهاها. صحيح أن روسيا خسرت مكانة ومصالح لها في الشرق الأوسط بسبب التطورات الأخيرة في حربها مع أوكرانيا، وصحيح أيضاً أن مكانة ومصالح إيران تضررت ضرراً بالغاً وبخاصة خلال الأسابيع الأخيرة، وصحيح أن سوريا تخضع الآن لمشروع نظام حكم غير محدد الأوصاف وغير مؤكد التوقعات والتوجهات، وصحيح أن أمريكا سوف تكون من الأسبوع المقبل لأربع سنوات قطباً متأرجحاً بين نزعات ومفاجآت رئيس مختلف وبليونيرات عقارات وأصحاب شركات للتكنولوجيا لهم جميعاً أطماع في شرق أوسط في حال سيولة وانتقال، صحيحة كل هذه المؤشرات وصحيح أيضاً أنها تنبئ عن مرحلة بالغة الاضطراب يتصادف حلولها مع حلول مرحلة سيكون فيها النظام الدولي هو الآخر في حال انتقال من وضع المنافسة بين الأقطاب إلى وضع الحرب الباردة.. أيام لن تكون على نمط ما سبق من أيام.
0 تعليق