تشرق اليوم شمس الحياة على غزة، ليكون يوم ميلاد جديد للقطاع المنكوب، بعد أن نشرت الحرب الاسرائيلية رائحة الموت والفناء والدمار في مختلف مدنه ومخيماته. اليوم يبدأ تطبيق سريان اتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحركة حماس بعد خمسة عشر شهراً ونصف الشهر من الحرب.
ليس غريباً أن يحتفل الغزيّون بالاتفاق لحظة الإعلان عنه، فهو احتفال من كان ينتظر دوره في الموت مثل غيره من الأهل والأقارب والأصدقاء والجيران بتلاشي خطر الموت عنه وتجدد الأمل في الحياة، احتفال من يعاني الجوع والعطش والحصار الخانق منذ بداية الحرب وعاد إليه الأمل في إمكانية حصوله على غذاء يسد رمقه ويعالج حرمان طويل من شربة ماء. احتفال المريض المحروم من الدواء الذي يخفف آلامه وتجدد لديه الأمل في إمكانية الحصول عليه، احتفال من عاش طوال الحرب مطارداً ومتنقلاً من مكان إلى آخر بحثاً عن أمان مفقود وتجدد لديه الأمل في العودة إلى مسكنه والاستقرار به.
من حق أهل غزة أن يحتفلوا بالدموع على من فقدوهم وكان دفنهم في مقبرة لائقة أو تلقي العزاء فيهم أو حتى البكاء عليهم «رفاهية» غير مستحقة. أطفال تيتموا بعد أن فقدوا العائل ودفء الأسرة، وكبار فقدوا فلذات أكبادهم، ونساء ترملت، وشيوخ وجدوا أنفسهم وحيدين لا يجدون من يعينهم على استكمال ما تبقى من العمر، وأسر وجدت نفسها في العراء بلا مسكن وعليها أن تتحمل قسوة الشتاء بأقل الممكن مما يصلهم من مساعدات قادمة من هنا أو من هناك.
الاحتفال بالتوصل لاتفاق لوقف الحرب، لم يبهج أهل غزة وحدهم ولكنه أبهج كل العرب والكثيرين حول العالم ممن تظاهروا ونددوا بالجرائم الكثيرة التي ارتكبتها إسرائيل، ورحبت بالقرار الدول العربية والعديد من دول العالم والمنظمات الدولية.
نعم، إسرائيل لم تحقق الأهداف التي أعلنتها في بداية الحرب، ولم تنجح في استعادة الرهائن إلا بالتفاوض كما أعلن ذلك الكثير من ساسة العرب والعالم، ولكن اتفاق وقف إطلاق النار هو القرار المنقذ لغزة من الفناء، وهو المنقذ لأهلها من القتل والإبادة والعجز والجوع والمرض، إنه كما لو أنه إنقاذ لحمل وديع من بين مخالب وحش فاقد السيطرة على نفسه.
الخسائر التي منيت بها غزة غير مسبوقة منذ إقامة دولة إسرائيل، فهي الحرب الأكثر توحشاً وقسوة، ولعل الأرقام دائماً هي عنوان الحقائق، 480 يوم قتال واستهداف لكل ما هو موجود على أرض القطاع براً وبحراً وجواً، سقط خلالها أكثر من 100 ألف ضحية، 70 في المئة منهم من الأطفال والنساء، وما لا يقل عن 10 آلاف مفقود، ونحو 110 آلاف جريح وعاجز، ونحو 61 ألف منزل مدمر كلياً وأيضاً 136 مدرسة وجامعة و823 مسجداً و٣ كنائس، فضلاً عن المباني المدمرة جزئياً، وخروج معظم المستشفيات من الخدمة والانهيار الكامل للمنظومة الصحية والتعليمية، وتدمير معظم المباني التابعة للأونروا، إلى جانب الضرر الذي لحق بالإسعاف والدفاع المدني وشبكات الكهرباء والمياه والصرف الصحي.
غزة تحتاج إلى إعادة بناء من جديد، وأهلها أيضاً يحتاجون إلى إعادة ترميم نفسي، وأطفالها يحتاجون إلى جهد كبير من المختصين لإزالة الآثار النفسية التي لحقت بهم جراء هذه الحرب حتى لا تظل المشاهد المرعبة التي عاشوها تطاردهم في مراحل حياتهم المختلفة، وكل ذلك لن يستغرق أياماً ولا أسابيع ولا شهوراً، ولكن سنوات وسنوات حتى تعود غزة كما كانت قبل السابع من أكتوبر 2023.
اليوم هو اليوم الفصل الذي نأمل أن يفصل بين مرحلة القتل والتدمير ومرحلة الطمأنينة والأمان والسلام، خصوصاً أن الإعلان عن التوصل إلى اتفاق لم يمنع إسرائيل من مواصلة ارتكاب مجازرها في القطاع خلال الأيام القليلة الماضية، ورغم ذلك فالأمل كبير في أن تلتزم إسرائيل بما اتفقت عليه خصوصاً بعد إعلان الولايات المتحدة ومصر وقطر ضمانهم الالتزام بتطبيق بنود الاتفاق.
الاتفاق الذي حدث ليس سوى مرحلة أولى من مراحل ثلاث، وهو ما يفرض ضرورة عمل الوسطاء وأطراف الصراع على بذل الجهد حتى لا يتجدد القتال، فهذا الاتفاق جاء بعد مفاوضات مضنية استمرّت منذ انتهاء الوقف الأول لإطلاق النار في نوفمبر/ تشرين الثاني من العام قبل الماضي، ورحلات مكوكية للدبلوماسية الأمريكية إلى المنطقة حيث قام أنتوني بلينكن وحده بإحدى عشرة زيارة خلال مدة الحرب، وجولات التفاوض المتنقلة بين القاهرة والدوحة، ناهيك عن الجهود التي بذلها زعماء عرب وأجانب لوقف الحرب.
[email protected]
0 تعليق