وضعت الحرب أوزارها في قطاع غزة حالياً على الأقل، وما إن انقشع غبار المعارك، حتى بدت معالم اليوم التالي الذي كان قادة الاحتلال ينتظرونه على أمل أن يكون صورة على الأرض لانتصار عسكري ساحق، لا يحقق الأهداف الإسرائيلية المعلنة للعدوان، وعلى رأسها إعادة جميع الأسرى الإسرائيليين فقط، وإنما يرمم صورة إسرائيل وجيش الاحتلال، والتي اهتزت في السابع من أكتوبر، مع ما حمله «طوفان الأقصى» من خسائر مادية ومعنوية لإسرائيل، وضربة سياسية وإعلامية أسقطت، وإلى الأبد، السردية الإسرائيلية التي كانت، لعقود طويلة، تقوم على أساطير وتزييف الحقائق والتاريخ، وتلاقي مع الأسف آذاناً صاغية في الغرب والولايات المتحدة خاصة.
وقفت المعارك وظهرت ملامح اليوم التالي، ولكن بعكس ما كانت تحلم به قوات الاحتلال وحكومة اليمين المتطرف، التي يقودها بنيامين نتنياهو، فلا المقاومة الفلسطينية قضي عليها، ولا الأسرى من الإسرائيليين عادوا بالقوة، رغم أكثر من أربعمئة وسبعين يوماً من القصف والدمار الذي طال البشر والحجر، وخلّف أكثر من خمسين ألف ضحية وأكثر من مئة ألف جريح ومفقود من أبناء الشعب الفلسطيني.
توقفت الحرب من دون أن يرحل الشعب الفلسطيني عن وطنه، بعد أن آمن من تجاربه القديمة والقاسية بأن بقاءه في أرضه والموت فيها أفضل بكثير من حياة الذل على دروب المنافي البعيدة، فكان ذلك الصمود الأسطوري الذي سيشكل نقطة بارزة في التاريخ الفلسطيني، وتاريخ حركات التحرر كلها.
دمّرت قوات الاحتلال قطاع غزة بالكامل، دمرت الاقتصاد الفلسطيني، حيث انخفض الناتج الإجمالي المحلي 35% منذ بداية الحرب حسب برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، وانهارت مستويات التنمية لتعود إلى ما كانت عليه في الخمسينات من القرن الماضي، ودمّرت البنية التحتية والمنظومتان الصحية والتعليمية.
واستناداً إلى بعض المعايير، اقترب مستوى الفقر في قطاع غزة الآن من 100% نتيجة للاضطرابات في حين بلغ معدل البطالة 80%، فيما يؤكد تقرير أممي أن اقتصاد غزة يحتاج إلى نحو 350 عاماً ليعود لوضعه المتعثر قبل الحرب، وإعادة الإعمار تحتاج إلى عشرات الأعوام.
لكن كل هذا المشهد الكارثي لم يستطع أن يحجب حقيقة دامغة، وهي أن إسرائيل لم تربح الحرب، أو تحقق «النصر المطلق»، كما فشلت في تحقيق أهدافها رغم أطنان القنابل والمتفجرات التي ألقتها من طائرات حربية على المدنيين، في حرب إبادة جماعية بكل ما في الكلمة من معنى.
انتهت الحرب وظهرت الصورة على الجانب الفلسطيني، عبر الاحتفالات الشعبية وصور التلاحم الوطني الفلسطيني الذي يعكس صورة إصرار على الحياة والصمود، وإن كان ملفّحاً بدماء عشرات الآلاف من الشهداء والجرحى. أما في «إسرائيل»، فالصورة وما يجري من أحداث تعكس حقيقة الفشل الإسرائيلي، حيث بدأت استقالات أبطال حرب الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية في صفوف الجيش الإسرائيلي، حيث أعلن رئيس الأركان هرتسي هاليفي استقالته، وسط مطالبات من المعارضة باستقالة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وأعضاء حكومته بالكامل.
وبرر هاليفي استقالته بسبب الإخفاقات الأمنية التي صاحبت هجوم السابع من أكتوبر، معترفاً صراحة بفشل الجيش الإسرائيلي في مهمة الدفاع عن «دولة إسرائيل»، على حد قوله.
وتأتي استقالة هاليفي بعد استقالة الميجور جنرال يارون فينكلمان، رئيس القيادة الجنوبية العسكرية الإسرائيلية التي تشرف على العمليات في غزة.
في الإطار ذاته، تصاعدت الدعوات في صفوف المعارضة الإسرائيلية، إلى استقالة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وأعضاء حكومته، وتشكيل لجنة تحقيق رسمية في «إخفاق» 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023.
وهنأ زعيم المعارضة الإسرائيلية يائير لابيد، هاليفي على قراره بالاستقالة، مطالباً نتنياهو وحكومته بالسير على خطاه وتقديم استقالتهم أيضاً. من جانبه وجّه رئيس حزب «إسرائيل بيتنا» أفيغدور ليبرمان، عبر منصة «إكس»: «بعد استقالة رئيس الأركان، دعوة لرئيس الوزراء وأعضاء المجلس الوزاري المصغر (الكابينت) لتحمل المسؤولية والعودة إلى منازلهم». أما بيني غانتس رئيس حزب «معسكر الدولة» المعارض، فقد طالب بتشكيل لجنة تحقيق رسمية للتحقيق في إخفاقات 7 أكتوبر.
وقال: «إن على رئيس الوزراء والمستوى السياسي، أن يتحملوا مسؤولياتهم من خلال تشكيل لجنة تحقيق رسمية، مع العمل على قيادة إسرائيل نحو انتخابات تتيح تشكيل حكومة جديدة تستعيد ثقة الجمهور على حد تعبير غانتس».
ولعل ما تؤكده هذه الاستقالات، والاستقالات التي سبقتها على مدى أكثر من أربعة عشر شهراً من الحرب على غزة، هو حقيقة كانت الدعاية الإسرائيلية تحاول إخفاءها وهي تتحدث عن انتصار على مقاومة الشعب الفلسطيني الذي ما زال متجذراً في أرضه رغم كل المجازر التي ارتكبها الاحتلال في حقه.
واستقالات أبطال حرب الإبادة الجماعية في جيش الاحتلال تعطي المعالم والصورة الحقيقة لليوم التالي، والتي أراد الاحتلال أن يقرر من خلالها مستقبل قطاع غزة، لكنها ظهرت في إسرائيل نفسها، في موجة الاستقالات والاضطراب الذي تعانيه الحكومة اليمينية في إسرائيل بعد استقالة وزير الأمن بن غفير من منصبه.
[email protected]
0 تعليق