حدثنا التاريخ عن كعكة شهية في أيدٍ لا تجيد حمايتها ولا تحفظها.. وحدثنا التاريخ أيضاً عن أنه لا يعيد دروسه إلا على من لا.. يحفظها.
ولكي نفهم ما يحدث اليوم نعود إلى الأمس إلى العام 1922 وهو عام سقوط الإمبراطورية العثمانية، هذا السقوط الذي أدى إلى ولادة دول الشرق الأوسط المعاصرة بعد أن اقتسمت بريطانيا وفرنسا التركة العثمانية في العراق والشام، وبعد أن انتزعت منها سابقاً مصر وبلاد المغرب.
كان دخول السلطنة العثمانية الحرب العالمية الأولى علامة فارقة في تاريخها، وبعد خسارتها الحرب بسنوات جرى توقيع معاهدة (لوزان) في سويسرا عام 1923 بين تركيا وبين القوى المنتصرة التي حددت حدود دولة تركيا الحديثة.. وكانت خسارتها ذريعة للقوى الأوروبية لتقاسم غنائم تركة السلطنة بعد انهيارها وتقسيم الكعكة بين فرنسا وبريطانيا.. وهكذا تجنبت هذه القوى استعمال عبارة (احتلال) كي لا تثير مشاعر الشعوب ضدها واستبدلتها بعبارة (انتداب) وهو نظام أقره مؤتمر (سان ريمو) الذي عقدته فرنسا في 26 إبريل / نيسان 1920، بهدف تحديد مصير ولايات المشرق العربي المحتلة.
بقي الاستعمار الفرنسي والبريطاني حتى اندلاع الحرب العالمية الثانية عام 1939. وكان مهيمناً على بلدان المشرق متسلحاً بسلطة الانتداب الممنوحة له من قبل عصبة الأمم المتحدة في مؤتمر لندن عام 1922 مع استثناءات في اليمن والسعودية والأردن. أما اتفاقية (سايكس - بيكو) الشهيرة فيذكر أنها وُقعت بسرية تامة بين فرنسا وبريطانيا على اقتسام الأرضي العربية الواقعة شرقي المتوسط عام 1916، ولم يَعرف العرب عنها شيئاً في ذلك الوقت إلى أن نشرت الحكومة البلشفية في روسيا نصوصها في أواخر العالم 2017.. قُسمت المنطقة بموجب هذا الاتفاق فحصلت فرنسا على الجزء الأكبر من بلاد الشام وجزء من جنوب الأناضول ومنطقة المُوصل في العراق. أما بريطانيا فامتدت مناطق سيطرتها من طرف الشام الجنوبي متوسعة بالاتجاه شرقاً لتضم بغداد والبصرة وجميع المناطق الواقعة بينها وبين المنطقة الفرنسية.. وتقرر وضع فلسطين تحت إدارة دولية يتم الاتفاق عليها بالتشاور بين بريطانيا وفرنسا.. ولاحقاً بموجب وعد (بلفور) الشهير تم إعطاء جزء كبير منها إلى الحركة الصهيونية لإقامة دولة إسرائيل.
تقول كتب التاريخ أن بلاد الشام كانت ضعيفة عسكرياً واقتصادياً بعد مغادرة العثمانيين. هذا الضعف الذي جعلها غير قادرة على مواجهة القوى الغربية، وسرعان ما تمكنت بريطانيا وفرنسا من السيطرة على الشرق الأوسط وإعادة ترتيبه ليتناسب مع رغباتهما. فأصبحت سوريا تحت الحماية الفرنسية أو الانتداب. ثم اقتُطعت المناطق الساحلية لتصبح محمية فرنسية اسمها لبنان.
أما العراق وفلسطين فأصبحتا تحت الانتداب البريطاني. وهكذا قررا تحويل العراق إلى مملكة ونُصّب عليها الأمير فيصل الأول ابن الشريف حسين ملكاً. وبالنسبة إلى فلسطين فقد قسمها الإنكليز إلى قسمين.. القسم الشرقي من فلسطين سميت إمارة شرق الأردن حيث نُصّب عليها الأمير عبد الله الابن الآخر للشريف حسين ملكاً عليها، وبقي القسم الغربي من فلسطين، حيث وُضعت تحت الإدارة البريطانية المباشرة تمهيداً لإقامة دولة لليهود.
هكذا كان تقسيم الكعكة التي تركها الأتراك وهي منهكة وغير قادرة على الدفاع عن نفسها. لم يدم الحال طويلاً حيث بدأ الوعي ينشط في صفوف الشعوب العربية التي سرعان ما استعادت عافيتها ورفضت الوصاية وطالبت باستقلالها فكانت فترة الأربعينات من القرن الماضي فترة النهضة التي حصلت بموجبها تلك البلدان على استقلالها التام. ليبدأ حلم «السلام».. هنا نذكر الكاتب ديفيد فرومكين، الذي أصدر كتاباً اسمه (سلام قضى على كل سلام) وهو يتحدث عن سقوط الإمبراطورية العثمانية وتشكيل الشرق الأوسط الحديث.. ورغم أن الكتاب تُرجم إلى اللغة العربية لكن لم تُثر ترجمته اهتمام المُؤرخين والأكاديميين العرب مقارنه بما أثاره هذا الكتاب في الغرب. بدأ الاهتمام العربي بكتاب ديفيد فرومكين مع ما سمي «بالربيع العربي».. واستشعار الخطر من التدخل الغربي وبداية الترسيم الجديد للحدود في خريطة المنطقة. وفي هذا السياق صدرت فجأة في بغداد عام 2015 ترجمة جديدة للكتاب بعنوان مختلف (نهاية الدولة العثمانية وتشكل الشرق الأوسط) وفي الترجمة الجديدة ربط د. منذر الحايك بين الأحداث القديمة والحديثة ليظهر أن فرومكين استشعر وجود نية لإعادة رسم خريطة شرق أوسط جديد خاصة في (العراق وسوريا ولبنان) يكون متماشياً مع المصالح الغربية. بينما لفت الكاتب (توماس فريدمان) في مقالة له إلى أن الشرق الأوسط أصبح في لحظة «تشرتشلية» تذكرنا بدور تشرشل في رسم الشرق الأوسط الجديد. وتكاثر الاهتمام بهذا الكتاب من قبل الكُتاب والمُحللين العرب خاصة مع تشابه الضعف العسكري والاقتصادي الذي وصلت إليه هذه البلدان بعد أن شهدت نهضة ثقافية واقتصادية في الستينات.. عادت ووهنت وأصبحت تتقلب بين الفساد والإحباط بين شعوبها خاصة بعد الأحداث الأخيرة، في فلسطين ولبنان وسوريا والدمار المُفجع وانهيارها الاقتصادي.. لتعيدها من جديد كعكة شهية قابلة للتقسيم..
ونسأل أين الجديد في الشرق الموعود؟ هل هو خريطة جديدة تضم طامعين جدداً؟ أم حكاية الانتداب القديم بثوب جديد وحلم «سلام».. قد يقضي على كل سلام؟
[email protected]
0 تعليق